الثورة المصرية في خطر
سبيلان لا ثالث لهما في صياغة دساتير الأمم والشعوب، الأول يماثل ما انتهجه الشعب الأمريكي عندما صاغ دستوره استناداً إلى قاعدة التوافق الوطني، والذي استغرق اعداده زهاء عشر سنوات، والثاني هو الذي انتهجه الشعب الفرنسي استناداً إلى قاعدة المكاثرة والمغالبة وهو الذي أدخل فرنسا في سلسلة طويلة من الصراعات امتدت عقوداً قبل أن ترسي قواعداً دستورية توافقي الطابع.
لا يمكن بحال استعراض اسلوب المكاثرة والمغالبة دون المرور على تجربة الثورة الفرنسية مع روبسبير، التي افضت إلى تفويض مكّنه من ادخال فرنسا في عهد الارهاب، فاعدام عشرات الآلاف على المقاصل، بدعوى تحصين الثورة وحمايتها، لينتهي الأمر إلى اعدام روبسبير نفسه بذات الطريقة، رويداً رويداً حتى أكلت الثورة أبناءها ووصول نابليون للحكم، وتم الانقلاب على الديمقراطية نفسها.
الديمقراطية بالمعنى الضيق كتعبير عن إرادة الأغلبية الانتخابية، كثيراً ما تحولت في تاريخ الشعوب إلى اداة حقيقية لانتاج القمع والاستبداد، فهي الوسيلة التي عبّدت الطريق أمام انتاج كل اشكال الاستبداد في النظم الشمولية، هتلر مثلاً وصل إلى الحكم وادخل مجموعة من التعديلات الدستورية والقانونية بالاغلبية التي مكنته أخيراً من أن ينتج نظاماً فاشياً مستبداً.
مقابل ذلك من الملاحظ أن هناك سوء فهم شديد في الخطاب الاعلامي والسياسي لمفهوم التوافق الوطني على الدستور، فالتوافق الوطني ليس معناه الاجماع بحال من الاحوال، بل معناه تحقيق الأغلبية داخل كل مكون من مكونات المجتمع على حدا أكان دينياً أو طائفياً أو جهوياً أو عرقياً أو سياسياً، ولا تعني الأكثرية العامة هنا الحق في فرض العقد على بقية المكونات، فالأصل أن العقد الاجتماعي الذي ترتضيه تلك المكونات هو الميثاق الذي بموجبه ترتضي حكم الاغلبية.
وعلى سبيل المثال لو كان المجتمع يتكون من اصلين جهويين أو عرقيين، أحدهم يمثل اغلبية المجتمع، فإن تحكيم منطق الاكثرية هنا في صياغة الدستور معناه أن الجهة أو العرق الذي تنتمي له الاغلبية سيهيمن على صياغة الدستور على حساب الجهة الاخرى، كذلك الحال عندما تستخدم الاغلبية التي يمتلكها أي مكون على ذلك النحو وعلى حساب المكونات الأخرى، وفي الحالة المصرية يكفي أن تكون اغلبية المسيحيين ضد هذا الدستور حتى يكون غير صالح لتحديد شكل الدولة.
ما يحصل في مصر هو نموذج عملي لهذه الطريقة، نموذج يضع الاخوان والسلفيين في كفة وسائر القوى والمكونات المجمتعية في كفة أخرى، وما ينتهجه الرئيس مرسي الآن حول مشروع الدستور يحوله من مشروع للتوافق الوطني عليه كمنجز للثورة يتم الاحتفال به لكونه كذلك، إلى مشروع يغلب به الاخوان والسلفيين بقية مكونات مجتمعهم ثورية وغير ثورية، والواضح أن أغلبية كل مكون من مكونات المجتمع المصري عدا تيارات الاسلام السياسي هي ضد مشروع هذا الدستور، ينطبق هذا على القوى الليبرالية واليسارية والقوميةّ، كما ينطبق ايضا على المسيحيين وغير المسلميين في مصر عموماً، وكذلك على أغلبية القضاة والاعلاميين والفنانين والمحاميين والدبلوماسيين بل وحتى مستشاري الرئيس من غير لونه السياسي.
إن مصر في خطر جراء هذه القسمة، ذلك أنها قد تفضي إلى تدخل عسكري، خصوصاً أثر المشهد المؤسف الذي رأيناه، بعيد انقضاض جموع تنظيم الاخوان على المعتصمين قرب قصر الاتحادية ونزع خيامهم وطردهم، وما تبع ذلك من تراشق بالحجارة وزجاجات المولوتوف، وما سيتبعه في الايام القلائل القادمة من زيادة في الاحتقان والانقسام ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي.
الثابت أن دستور مرسي قسم مصر فعلاً وبشكل حاسم إلى قسمين (عشيرتين)، قسم يضم الاخوان والسلفيين، وقسم يضم بقية مكونات مصر السياسية والطائفية، وفي هذه الحالة يكون صندوق الاقتراع أياً كانت نتيجته اسوء وسيلة يمكن اللجوء إليها، فالخاسر هو مصر جميعها سواء ثبّت الاخوان دستورهم أو العكس، لأنه يحتكم فيه هنا إلى منطق المغالبة على شكل الدولة نفسها، والدولة ملك للجميع وليست ملكاً لأي تيار وحده مهما كانت حصته الانتخابية.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال في عوار دستور الجماعة، إلا أن الأولى هو البحث عن تسوية تنهي حالة الانقسام والاصطفاف المتقابل والاحتقان المرعب، فمصر الآن بحاجة إلى دستور تتوافق عليه فيوحدها لا دستور يقسمها ويمزقها.