وهج... وكرامة
د. عبدالمهدي القطامين
جو 24 :
"ارم يا ابن امي وابي وانا ساحمي ظهرك ....ارم لا ثكلتك امك " جاءه الصوت من خلفه التفت " المجند احمد شحاده " فوجد العريف " محمد هويمل " يتمترس خلفه ويسدد نيران بندقيته على فوج العدو المتقدم ، ابتسم ابتسامة الرضى ، عبأ حشوة المدفع ادار عياره قليلا ثم الى رتل الدبابات الذي قطع الجسر بصخب ، سدد ورمى القذيفة ، بينما راح صوته المنتشي يردد : الله اكبر كان النداء يرتفع ساعة فجر اذاري بدأت فيه دحنونات الغور متسربلة بلونها الاحمر وكان على مقربة منهما ضابط الاحداثيات "خضر شكري " ينتظر اشارة من القائد " مشهور الجازي " على الطرف الاخر من الخط " : ايها الابطال ابدأوا باسم الله رميكم على العدو .... بدأت الايدي المشتاقة لرائحة البارود والنصر - بعد هزيمة لم تبلغ عامها الاول - تقبض بعنف على زناد البنادق والمدافع فيما ارتفعت خيوط الدخان من مقدمة رتل الدبابات المتقدمة وبشغف وفخر اخذ العريف " تميم " يردد : اصابة دقيقة لثلاث دبابات راح اللهيب يرتفع من غرفة قيادتها .
......................................................................................................
..... اللعنة من اين تأتي كل هذه النيران سيدي ، لقد فقدنا جزءا كبيرا من مدرعاتنا التي قطعت الجسر ... واشلاء العسكر باتت تملأ الوادي ، ابرق المقدم " شلومو " لقائده " عوزي ناركيس " ، نريد ان تحمينا الطائرات ، سيدي الوضع كارثي .... كان "عوزي " انذاك يجالس من معه من الصحفيين ومراسلي وكالات الانباء الذين وعدوا بان تكون قهوتهم على مرتفعات السلط ، بدت على وجهه المحمر ملامح الدهشة والغضب ، لم يستطع الرد على مراسل صحفي وجه له السؤال مباشرة : ما الذي حدث سيادة القائد واين وعدك لنا ؟؟؟؟ وراح جهاز اللاسلكي ينقل الاخبار السيئة : لقد بلغ عدد قتلانا اكثر من خمسين جنديا سيدي والساعة لم تبلغ بعد الثامنة صباحا ... انهم يخرجون من كل حدب وصوب يقاتلون بثبات ولا تستطيع الطائرات ان تلقي حممها على ساحة المعركة ، السلاح الابيض وحده سيدي الان الذي يحسم المعركة .
.....................................................................................................
مد العريف "تميم احمد " يده الى جيب معطفه الجيشي ، اخرج سلسالا كان قد احتفظ به في داخله صورة ابنته الصغرى " شفق " كانت لم تتجاوز الخمسة اعوام بعد ، وحين استدعي على عجل لوحدته العسكرية ارتمت في احضانه وخاطبته : بابا لا تنس ان تأتي لي بما وعدتني فانا انتظر عودتك بفارغ الصبر .... كان معها ليوم خلا في السوق واعجبتها لعبة دب كبير ووعدها ان يشتريها حين يستلم راتبه بعد ايام ثلاثة ويبدو انها لم تنس الوعد .... طبع قبلة حارة على وجهها المبتسم في الصورة وفجأة لمحت عيناه ثلة من جنود العدو على مفترق الطريق المؤدي الى الجسر، كانوا يتقدمون وهم يطلقون النيران بكثافة قفز لخندقه الذي اعده لهذه الغاية ، اتكأ على حواف اكياس الرمل التي غطت الخندق ، سما باسم الله ثم كبر وارخى العنان لبندقيته قتل اولهم واصاب الثاني الذي سقط ارضا فيما حاول ثالثهم الهرب من وابل رصاصه المنهمر... وفجأة احس بخيط دم ينساب ساخنا من جبهته ثم بدأ كل شيء يختفي من امام ناظريه امتدت يده رافعة علامة النصر وكان اخر ما لفظ الشهادة بينما راحت قطرات من الدم تنساب على صدره لتلامس الصورة المثبتة في الاطار ثم لم يعد ير او يسمع شيئا بينما كانت روحه تعانق السماء المنتشية برائحة الشهادة .
.....................................................................................................
الشمس تتوسط كبد السماء فيما راحت خيوطها تلسع الجثث الملقاة على الطريق الواصل ما بين " الغور وجسر داميا " و "عوزي " يتلقى الصدمة تلو الاخرى فيما راحت الاخبار ترده تباعا : فقدنا اكثر من مائة جندي واكثر من عشرين دبابة ما العمل سيدي القائد ..... الصمت يطبق على المكان اخذ يذرع غرفة العمليات جيئة وذهابا ومن حوله قادة الكتائب ينتظرون منه الاوامر وبعصبية مفرطة يرد : سنطلب وقف اطلاق النار الان فلا قدرة لنا على تحمل المزيد من الخسائر .... جيشنا الذي لا يقهر قهر اليوم ، اتصلوا باصدقائنا في العالم لمساندتنا وليتم الضغط الى الملك الحسين ليوقف اطلاق النار .
.......................................................................................
ضابط الملاحظة الملازم اول " خضر شكري " يبرق لقائد الجبهة : سيدي تم محاصرتنا من قوات العدو ساعطيكم احداثيات الموقع الان وارجو ان يتم قصف موقعنا حالا لن نقع في الاسر سنموت ولكن شهداء ... من اي صخر قد قلبك يا خضر ابن يعقوب .... راح العقيد "مشهور" يردد وهو يوزع نظره في القادة المحيطين به في غرفة العمليات التي اخذت ترتج جراء القصف المدفعي للعدو ، فيما كان صوت الملازم خضر يتردد عبر الجهاز : 'أحاط العدو موقعي، إرموا موقعي .. دمروا موقعي، إني نلت الشهادة في سبيل الله'ارجوك سيدي الان الان ليكن القصف سيموتون جميعا وسيكونون قتلى ونكون نحن الشهداء .... ارجوك سيدي لن استطع ان اتصل بكم مرة اخرى انهم يقتربوووون .... وحين راحت مدفعية كتيبة " خضر " تدك موقعه اقسم بعض الجنود الذين ادركوا الواقعة ان السماء بدت انذاك تبتسم وانهم شاهدوا روحا مضرجة بالدم كانت تحفها اجنحة بيضاء صعودا نحو السماء .
.......................................................................................
برقية اخرى تصل "عوزي ناركيس " قائد جبهة العدو الذي اصبح تماما في حالة من الهيجان والغضب هذه المرة من قائد سرب الدبابات شلومو جروسك "" لقد شاهدت قصفا شديدا عدة مرات في حياتي لكنني لم ار شيئا كهذا من قبل ، لقد اصيبت معظم دباباتي سيدي اوقفوا القتال بأي ثمن ... مذعورا هلعا خائفا بدا " عوزي " وهو ينتظر رد ملك الاردن على طلب وقف القتال الذي طلبه عبر الوسيط الدولي ، لكن الرد لم يتأخر فقد كان جواب الملك صادما له " لن نوقف القتال ما زال جندي واحد لكم شرقي الجسر اما الموت او الانسحاب " .... : كلاهما مر .... راح " عوزي " يردد ، ولكنني افضل الاخر ... ماذا تقولون ايها القادة ؟؟؟؟ وبصوت واحد ردد الكل : الانسحاب يا سيدي ، الانسحاب ، فقد خسرنا اكثر مما خسرناه في حرب حزيران .
...............................................................................................
ارتفع هتاف الجند الله اكبر مثلما ارتفعت اهازيج تحيي الحسين الملك كان ، الجميع يترقب ما يقوله الملك عبر اذاعة المملكة حتى جاء الصوت المجلجل : يا إخوتي في السلاح يا حصن الأردن الحصين ودرع العرب المتين يا معدن الفخر وينبوع الكبرياء، يا ذخر البلد وسند الأمة، وأصل البطولة والفداء، أحييكم تحية إكبار لا تقف عند حد وتقدير لا يعرف نهاية، وأبعث مثلها إلى أهلي من ذوي الأبطال الذين سقطوا في ساحات الوغى بعد أن أهدوا إلى بلدهم وأمتهم أنبل هدية وأعطوا وطنهم وعروبتهم أجزل العطاء, فلقد كنتم جميعاً والله أمثولةً يعز لها النظير في العزم والإيمان، وقمة ولا كالقمم في التصميم والثبات، وضربتم في الدفاع عن قدسية الوطن والذود عن شرف العروبة أمثولة ستظل تعيش على مر الزمان " .
....................................................................................................
حين بدأت الشمس تنوس في الافق الغربي ، شوهدت ارتال من جيش العدو تلم خسائرها من الميدان ، كانت تجر اقدامها جرا وتنوء اكتافها بما حملت من الجثث بينما كان الجانب الشرقي من النهر يشهد ملكا يحتفل بين جنوده بالنصر على ظهر دبابة محترقة و الزغاريد ترتفع معلنة نهاية اول معركة ينتصر فيها العرب على العدو المغتصب ، وشوهد جريح يحمل سترته العسكرية وبتثاقل يكتب بدمه على جدار مدرسة الغور التي ملأها الرصاص ثقوبا : انها الكرامة لقد انتصرنا .
** هذه القصة فائزة بالمركز الاول في مسابقة القوات المسلحة الاردنية الجيش العربي بمناسبة اليوبيل الفضي لمعركة الكرامة.