2024-11-25 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عن الحكمة المتعالية وأوجاعها

ابراهيم العجلوني
جو 24 : قد يكون ادخل في امحاض النصح للآخرين ان تبدأ بنفسك فتحملها على ما يزينها، وتأتي بما تريدهم عليه في معرض المناصحة لنفسك، وهي سبيل لا معدل عنها بعد استفراغك الوسع في المقاولة والمجادلة وبسط الآراء، دونما جدوى، وبعد ان تكون قد أوشكت على الاستيئاس من افهام بعض الناس، او شارفت من القنوط مقام الاستئناس.
انها حالة من يضرب المثل بنفسه فيما يريد ان يدعو الناس اليه، وهي في المسألة المعرفية اشد شيء خطراً، لأنك ان اردت ان تقيم من نفسك انموذجاً لمحب الحكمة وطالب العرفان، واستغرقك ذلك زمناً، صرت في غربة قاسية، وتناءيت وعياً ولغة ومفاهيم عن اولئك الذين كان يؤذيك ابلغ الأذى ان لا ينتبهوا الى جوهرهم السماوي، وان يضرب الحس الغليظ عليهم بالأسداد..
ثم ان من يذهب بعيداً في هذا الفلك قد ينتهي الامر به الى ان ينسى المهمة التي سعى فيها لأول انطلاقته، وان يذهل بالمطالب العالية للفكر عن غايته في توخي النصح وضرب المثل، وهي تجربة مر في لهيبها كثير من الفلاسفة والمتصوفة، نذكر منهم في هذا المقام ابا حيان التوحيدي الذي كان صدره ضيقاً حرجاً لفرط ما تصعّد عقله في سماء الحكمة والمعارف، والذي انتهت به مكابدته الروحية الى تدبيج «الاشارات الإلهية» بعيداً عما تحت افق القمر من حيوات وصراعات وعلائق وضرورات.. وما احسب الا ان الامام الغزالي وابن طفيل قد توقلاً صُعُداً هذه المعاناة، وان حضارة الاسلام قد عرفت المئات ممن اكتووا بنارها..
واذ نتجه بأبصارنا نحو الأفق الغربي من عالمنا الصغير، قديماً وحديثاً، فاننا واجدون شخصيات مأخوذة بما انتهت اليه من رؤى تتجاوز ما استقر عليه واقع الناس، منسجمة مع ذواتها بغض النظر عن السائد من الأفكار والتصورات، بقوة التقليد او «الثؤباء» التي تُعدي، او بالاستنساخ الايديولوجي، او بقهر السلطات وسطوة اعلامها، كما هو الأمر مع نيتشه الالماني في كتابيه «هكذا تكلم زرادشت» و»غسق الاوثان»، ومع البير كامو الفرنسي في كتابه «الوعي المتمرد» ومع كثير غيرهما ممن خلصوا الى وعي مفارق، ولغة مختلفة، والى مصير مأساوي بامتياز.
ان مقتضيات المسؤولية الاخلاقية، والريادة المعرفية، والهواجس المؤرقة التي ينشغل بها اولو العزم من المفكرين في مبتدأ امرهم قد تنتهي بأفراد منهم الى الاكتفاء بمباهج استبصاراتهم او بلذاذات الحكمة المتعالية وبأوجاعها، بعيداً عن غبار الواقع الذي يكتنفهم، وهي مفارقة تبعث على التأمل بقدر ما تبعث على الحيرة، فضلاً عن كونها مفارقة قديمة حديثة، باقية ما بقي التفاوت بين العقول والأذواق، وما اختلفت اعطان (او حوزات ضيقة) عن آفاق..
الرأي
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير