jo24_banner
jo24_banner

فصل في الإبصار والبصيرة

ابراهيم العجلوني
جو 24 : املى الاستاذ احمد امين كتابه: «يوم الاسلام» على احد اصدقائه – وفي رواية ان هذا الصديق هو الراحل الدكتور احسان عباس رحمهما الله – وذلك بعد ان كف بصره اوائل خمسينيات القرن الماضي. وكان هذا المؤرخ الناقد الاديب قد امضى عمره قارئاً كاتباً, وافاد الناس من كتبه, وتتلمذت عليه اجيال من المثقفين, في مصر والشام والمغرب والجزيرة العربية. نذكر من هذه الكتب: «فجر الاسلام» و»ضحى الاسلام» و»ظهر الاسلام» ثم «يوم الاسلام» الذي ذكرناه اول الحديث, وقد ارّخ في هذه المجموعة للحياة العقلية والاجتماعية في الاسلام, منذ أيامه الاولى الى منتصف القرن العشرين. كما نذكر من كتبه: «النقد الادبي» و»فيض الخاطر» في عشرة اجزاء و»مبادئ الفلسفة» وقاموساً للهجات والاوابد ربما كان هو الذي الهم العلامة العزيزي قاموساً مثيلاً, ورسالة مشهورة «الى ولدي». وكثير غير ذلك, فضلاً عن رئاسته لتحرير مجلة «الثقافة» التي كانت رصيفة للرسالة. نذكر ذلك كله ونتصور تلك الساعات الطوال التي كان يقضيها يومياً في تقليب الصفحات أو في تدبيجها, ثم نتصور الى ذلك كيف بدأ الوهن يدب الى بصره رويداً رويداً. وكيف كان يستشعره اولاً بأول, ثم كيف بدأت الغشاوات تحول بينه وبين رؤية سطور ما يقرأ أو شخوص من يختلف اليه من تلامذته واصدقائه, وعلى أي نحو كان وقع ذلك في نفسه.
ومن يقرأ كتاب «يوم الاسلام» الذي املاه هذا المعلم الكبير املاء, وجهد أن يكون رسالة منه الى مفكري الامة وسياسييها واجيالها الجديدة, يلمس من هذا الكتاب الذي جاء فصلاً واحداً طويلاً تتدافع الافكار فيه ارسالاً دون توقف, يلمس حرص رجل الوعي والاصلاح على ان لا يكتم أمته شهادته وان يضمّنها, وهي آخر ما كتب, خلاصة انظاره وجهوده المعرفية التي نسي في مكابداتها بصره وفقد حبيبتيه اللتين احتسبهما عند الله الذي لا يضيع أجر المحسنين.
وكما فقد احمد امين بصره وهو ينير لأمته دروبها ويجلو بصائرها, فقد تأدّى الانكباب على مظان المعارف والعلوم بكثير من المفكرين والعلماء الى فقدان ابصارهم, والى ان يحيوا ما تبقى من اعمارهم عالة في الصغيرة والكبيرة على الاخرين, مع ما في ذلك من حزن وحبوط. وإذ اتفق لأحمد امين ان يحظى بصديق وفيّ يملي عليه كتابه/ الشهادة, فإننا لا نرى في مثل هذه الواقعة قاعدة مطردة, بعد أن تباعد ما بين الناس وبين قيمهم ومروءاتهم, وبعد أن انسحب العلم (بما هو قيمة عليا) من حياتنا الاجتماعية, وبعد أن صار معظم الناس يسخرون من اولئك الذين يسلخون السنوات ذوات العدد في التزوّد بالمعارف, ويرون اليهم بصفة كونهم شواذ عن القاعدة العامة التي اتخذت الجهل مستقراً وجعلت هواجس المعرفة دبر اهتمامها.
ان فقدان البصر بأخرة من العمر مأساة حقيقية عند عامة الناس وخاصتهم. وهو ابلغ ايذاء واشد وطأ عند رجل الفكر والادب. اما فقدانه في الصبا الباكر, كما كان الامر مع ابي العلاء المعري ومع طه حسين, فإن ثمة فرصة لاعتياد ذلك, وثمة متسع من الزمن للتعايش معه, ثم للانتصار على ذلك بضروب من الابداع, على أن فاقد البصر في كلتا الحالتين مفتقر الى غيره في معظم شؤونه, وكم في ذلك من عنت واعنات, ومن اسباب ممتدة لاكتراب النفس وشقاء الروح.
ان من اعتاد ان يقرأ في عدة كتب دفعة واحدة يتابع فكرة هنا, ويحقق كلمة هناك, ويستنبط معنى هنالك.. إن من هذه حالته قد يعتصره الالم وهو يتوسل ان يتلمس طريقه, او هو يرجو ان يقرأ له متفضل من الناس صفحة من كتاب..
بيد أن مما نؤمن به ان الله سبحانه يجعل لمن اصابه مثل ذلك مخرجا, ويلهمه من الصبر والحكمة ما يهون معه وقع البلاء عليه, واقل ذلك انه لا يعود يرى كثيراً من شرار الخلق, وانه يعوّضه بقوة البصيرة عوضاً لا مطلب وراءه للعاقل, ولا نور وراءه للمستنير.
الأي
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير