نحو مدرسة نقدية عربية إسلامية
ربما يكون من معاني «الاطروحة» الجامعية انها رؤية جديدة أو اكتشاف ذو اهمية بالغة في موضوع ما او وجهة نظر مختلفة فيه وانها مشفوعة بالحجج والبراهين المقبولة, وانها في حال توافر ذلك كله لا تعدو ان تكون «تمريناً» في النظر العلمي, يكون الباحث بعده مؤهلاً لأن يطرق ابواب المسائل, ولأن يكون في قادم ايامه – إن اوتي الهمة والارادة – عالماً أو مفكراً أو أي شيء تَسَعُهُ قدرته ويؤدي اليه اجتهاده.
هذا ما نفهمه من «الاطروحة الجامعية». ولعل هذا أن يكون هو ما فهمه اولئك الاكاديميون الاوائل في الحياة الجامعية العربية الى اواخر ستينيات القرن الماضي, حيث بدأ يتسرب الوهن الى هذه الحياة, لاسباب كثيرة متظاهرة, حتى غدا قصارى ما يحققه اصحاب الرسائل أن يجمعوا في الموضوع الواحد ما استطاعوا جمعه من «معلومات», يضعونها في ابواب وفصول, ويربطون فيما بينها على أي نحو يرضى عنه المشرفون عليها, ثم يمهدون لذلك ويختمون بما يفتح الله به عليهم, ثم يضعونه في مجلد ويتقدمون به للامتحان – الذي اصبح طقساً معروفاً وتقليداً موصوفاً – ثم لا يلبثون ان يخوضوا في وعي الامة وضميرها خوض القراصنة المعلمين, مع يقين, أي يقين, بأنهم رادة وقادة, ومع حسبان بأنهم يحسنون في ذلك صنعاً, وان لهم به أيادي على الامة مستحقة وديوناً واجبة الاداء.
فاذا زدنا على ذلك كله أن كثيراً من مناهج التدريس الجامعي – ولا سيما في العلوم الانسانية – قد اجتلبت اجتلاباً, ولم تكن امتداداً حيّاً لتراث أمتنا العقلي ولأساليبها الخاصة المتميزة في النظر، وللدقيق المُبهر من طرائقهِ وأدواته، فإن بنا ان نجزم بان محصلة معظم الرسائل الجامعية في هذه العلوم الانسانية هي المزيد من الاستلاب والمضاهأة والتقليد، والمزيد من التبعية الثقافية، التي هي اكبر اسباب التبعية السياسية والطف ممهداتها.
من اجل ما تقدم لم تنشأ فينا مدارس نقدية لا اتجاهات فكرية صارمة متنخلة لما يغشى واقعنا الثقافي والسياسي من غثاء وما يمور فيه من ادواء.
ومن أجله، وبسبب وثيق منه، صار كثير ممن يملكون لسانا وشفتين فلاسفة او شعراء او خطباء لا يمنعهم مانع – ما امتلكوا اسباب الشهرة والذيوع – من توكيد حضورهم، ولو اجتمع على تسفيههم الجاحظ وابو حيان والرافعي والعقاد مجتمعين.
ولو كانت لنا من مدارس نقدية سواء أكان ذلك داخل اسوار الجامعات ام خارجها، لامكن ان تأخذ الامور مسارها الحق، ولما تُركت الساحة الثقافية نهبا للمغامرين من فلول الايديولوجيين وارباع المثقفين واهل التملق والمداهنين.
أذكر في هذا المقام مقالة كتبتها اوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، تناولت فيها ما لحق الشهادات الجامعية من تزوير، وما يرتبط بها من شكليات فارغة. اذ اسعدني آنذاك ان يتصل الى الاستاذ الدكتور محمود السمرة مبدياً موافقته على ما ذهبت اليه. وهو حديث ذكرته به, في ندوة في جامعة البتراء بعد اكثر من خمسة عشر عاماً, واستنبأته الجديد من خبره, فزادني موافقة على موافقة, وقال ان الحال هي الحال, ولم يكتمنا شهادته, ولا ينبئك مثل خبير.
وعلى ما في ظاهر كلامنا هنا من مخايل الحبوط, إلا أنه غير بالغ بنا درجة الاستيئاس, لما نعرفه من توافر عدد من كبار النقاد في عالمنا العربي, ومن كونهم بمفازة من الفهاهة والتهافت والزيوف التي تستغرق واقع الثقافة والسياسة, الأمر الذي لا نستبعد معه قيام مدرسة نقدية عربية اسلامية ربما كانت هي أول شروط النهضة الأدبية والفكرية التي نريد..)الرأي)