معاكسة الفتيات.. ليست قضية هامشية
جدل واسع أثاره التقرير التسجيلي القصير، لمجموعة طالبات من الجامعة الأردنية، حول ظاهرة "المعاكسة" للفتيات. وهو التقرير الذي التقطته بذكاء الزميلة غادة الشيخ، لـ"تنبش" عبره، ومن على صفحات "الغد" أمس، أخطر القضايا الاجتماعية والأخلاقية المسكوت عنها في المجتمع الأردني والعربي.
أهمية مبادرة الطالبات، الشجاعات بحق، لا تكمن فقط في تعبيرهن بطريقة مبتكرة وجريئة عن غضبهن ورفضهن لهذه الظاهرة المقيتة والمؤذية، وسعيهن إلى حشد الرأي العام لتعرية هذه الظاهرة ومرتكبيها من شباب مستهتر بكل القيم والأخلاق، بل تكمن أهميتها أيضا فيما أظهره نشر التقرير من ردود فعل وتعليقات، أسهمت في الإضاءة أكثر على طبيعة هذه المشكلة، وأبعادها الفكرية والاجتماعية.
خطورة هذه الظاهرة لا تتوقف عند إطلاق التعليقات و"المعاكسات"، الخادشة للحياء العام، والماسة بكرامة الفتاة والناس والمجتمع، التي تصل في أحايين كثيرة إلى حد التحرش الجنسي، بل تتعداها إلى توفير حاضنة "فكرية وقيمية" مشوهة، تجد لها في المجتمع من يؤيدها أو لا يعترض عليها، أو على الأقل يحمل مسؤوليتها للضحية المنتهكة كرامتها وحريتها، وهي الفتاة، سواء في الجامعات أو المجتمع بشكل عام!
تعليقات عديدة حملتها مواقع التواصل الاجتماعي التي نشرت الفيلم التسجيلي، أو وردت إلى موقع "الغد" الالكتروني بعد نشر تقرير الزميلة الشيخ، تقدم تبريرات سطحية لمرتكبي فعل "المعاكسة"، وتحمل الفتاة مسؤولية وقوع الفعل، والذي يصل أحيانا حد جرم التحرش الجنسي، حيث يستسهل أصحاب هذه التعليقات، بل قل العقلية، تحميل لباس الفتاة المسؤولية، في خطاب مشوه، ينصب فيه صاحبه نفسه حكما ومفتيا ومنظرا، يبرر استباحة كرامات الناس وحرياتهم وأعراضهم بدعاوى خروج الفتاة عن "العادات والتقاليد وتعاليم الدين"!
ليست قصة بسيطة ولا هامشية قضية المعاكسات والتحرش الجنسي "اللفظي"، ولم يكن الكثير منا يحتاج إلى تقرير طالبات الجامعة التسجيلي ليعرف انتشار هذه الظاهرة، سواء في المجتمع الأردني أو العربي بشكل عام، وثمة عشرات القصص التي نستمع إليها يوميا من أغلب الناس، وهي روايات وخبرات تمكن من رسم صورة واضحة لمن يريد أن يقرأ مثل هذه الظواهر السيئة والمقلقة.
الأسوأ أن البعض استمرأ محاكمة الطالبات المبادرات على اقتحامهن جدار الصمت و"التواطؤ" المجتمعي والذكوري حول هذه الظاهرة، وانتفاضتهن ضدها، عبر فيلم تسجيلي وبثه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، على اعتبار أن مثل هذه الظاهرة تحتاج باحثين ومفكرين لتشريحها ودراستها. لكن ذلك لا ينفي أهمية تصدي الصحافة ومنابر اجتماعية ومجتمعية أخرى لهذه القضية، في الطريق إلى تقديم معالجات ومقاربات اجتماعية وفكرية.
المدخل لتفسير ظاهرة المعاكسة، التي تخترق كل الحواجز الأخلاقية في أحايين كثيرة، هو بوضعها في إطار المشكل السياسي الاجتماعي وأبعاده الفكرية، للمجتمع العربي الحديث، وضمن سياق حالة الاغتراب بمفهومها العلمي، التي يعيشها الشباب العربي، وتتجلى في حالة النكوص إلى التطرف السياسي والآيديولوجي، أو الانسحاب إلى الدور السلبي تجاه المجتمع والحياة العامة. فيما يمكن تفسير جزء من الظاهرة أيضا، بالموقف المشوه لدى العديدين تجاه حريات وحقوق المجتمع والآخر، باعتبارها حقوقا مستباحة يمكن خرقها دون تأنيب من ضمير أو ردع ذاتي.
ليس صحيحا أن الظاهرة تقتصر في استهدافها على الفتيات غير المحجبات، كما يحاول بعض المرضى التبرير، بل هي فعلة شنعاء تطال المحجبة وغير المحجبة، لأن الأزمة الأخلاقية والقيمية هي في الطرف الثاني للعملية، وهو الشاب المستهتر، لا الفتاة.
هي ظاهرة اجتماعية فكرية بامتياز، لا يمكن مواجهتها والحد من شرورها القاسية على المرأة بوضع الرأس في التراب!"الغد"
majed.toba@alghad.jo