jo24_banner
jo24_banner

ذكريات طفوله ..

ديما الكردي
جو 24 :
في منطقة الميدان الدمشقية العريقة، وبين أزقة منازلها القديمة كان هناك منزل بني على الطراز الشرقي تتوسطه شجرة سنديان ضخمة تقبع في باحة واسعة تحيط بها الغرف من كل الجهات باستثناء زاوية كان فيها سلم يؤدي الى الطابق الثاني من البيت حيث تجد غرف نوم اضافية تطل على شرفة كبيرة.. كان ذلك ما يطلق عليه في سوريا اسم "البيت العربي".

كنا ننتظر العطلة الصيفية بفارغ الصبر لنسافر الى دمشق لرؤية الأقارب و تناول ما لذ وطاب من طعام وقضاء أيام جميلة بريئة لا أحسبها تتكرر.

كنت أحب ذاك البيت الذي كان يحتضني بكل حب وحنان وشوق أشعر به عند كل لقاء . كنت أعشق خيوط الشمس الأولى وزقزقة العصافير التي كانت توقظني كل صباح.

احدى غرف ذلك المنزل العربي كانت دائماً مغلقة، وكانت بالنسبة لنا منطقة غامضة محظورة لا يستطيع أحد الدخول اليها حتى إن خالتي روت لنا في احدى الزيارات أن أفعى كبيره تسكنها، فكنا نخاف من مجرد الاقتراب منها، ولكني كنت أسترق النظر في لحظات الشجاعة لرؤية ما تحويه.. تمنيت ومازلت أتمنى أن أدخل تلك الغرفة الغامضة.

عندما يقرع جرس الباب كنت أتسابق وأقراني لفتح الباب لبائع الحليب الذي كان يأتي يوميا ليبيعنا الحليب الطازج الساخن لتصنع لنا خالتي "القهوة بحليب" لنبدأ يومنا بنشاط وحيويه. بعدها يبدأ مشوار الفطور .. الذهاب إلى الحمصاني لشراء المسبّحة والحمص الساخن الذي كان يضعه البائع في كيس شفاف، ثم المخبز لشراء الخبز "المشروح". كانت تلك الرحلة المفضلة لدي بالرغم من تكرارها كل صباح الا أنها كانت ذات نكهة جميلة تتجدد كل يوم .

بعد الانتهاء من الوجبة الأولى يأتي موعد تنظيف البيت أو "الشطف" الذي كان يشمل معظم الغرف المحيطة بالباحة، أو ما يسمى باللهجة الدمشقية "أرض الديار"، ثم الباحة نفسها.. يا الله ما زلت أذكر مدى السعادة التي كنا نشعر بها عند القيام بذلك، كنا نتسابق لتلك المهمة لنظفر في النهاية ب"التزحلق" على الماء في "أرض الديار"، و بالرغم من الرضوض الناتجة عن الاصطدام بحواف أحواض المزروعات على أطراف الباحة الا أن حلاوة اللعب بالماء كانت تستحق تلك الأوجاع.


يحل الليل ليرخي سدوله الفضية المضيئة بنور قمره ونجومه على المنزل والمدينة.. لم نكن بحاجة إلى تلفاز فمجرد الاستلقاء على الأريكة والنظر الى تلك اللوحة الربانية الأخاذة من شأنه أن يسلينا وأن يرسل ملكة الدعابة والمزاح فيما بيننا حتى يلاعب النوم جفوننا.

كم كنا محظوظين بتلك الأيام .. حب، وبراءة، وصدق كانت تغلف تلك العلاقات، وعبق التاريخ الدمشقي القديم في كل جوانب ذلك المكان، وقصص تحكيها تلك الجدران عن أناس توارثوا ذلك البيت جيل بعد جيل.

أما زلت يا ميدان هناك؟ أما زالت تلك البيوت العتيقة مكانها؟ بائع الحليب.. الحمصاني.. السَّمان.. هل أنتم كما أنتم؟ أم غيرتكم الدنيا كما فعلت بنا؟
لم لا أحمل ذكريات جميلة سوى من عهد الطفولة؟ لماذا؟ أهي طبيعة الانسان، أم طبيعة اللحظة، أم ماذا ؟

اشتقت إليك يا شام .. اشتقت الى حاراتك.. أسواقك القديمة: الحريقة.. الصالحية.. الحمراء.. سوق مدحت باشا. اشتقت إلى أصوات الباعة في كل مكان. اشتقت لتلك الوجوه البيضاء، والنظرات الرعناء التي كنت أضحك عند رؤيتها.

الله... كم من الوقت سيعطوكِ حبيبتي حتى يسلموا سلاحهم الأخير؟ كم من الوقت يلزمهم حتى يدركوا أن أرضك دُرة غاليه.. أغلى من أي سلطة وأي مركز !
حمى الله شامنا وفرّج همها وهم الصابرين المناضلين.
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير