لاتدعوهم يدخلوا عقولنا بأقدامهم الوسخة
عندما بدأت في كتابة هذه السطور تذكرت قولاً شريفاً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. لا أذكرُ نصه أكثر مما أذكرُ معناه وفحواه. مفاد هذا القول الشريف هو حالة مقيتة يتعرض لها مجتمعنا في هذه الأيام، ويتم فيها تكريم المرء لا لخلقهِ وعلمهِ ونبله، بل اتقاءً لشره ومخافة لسانه. وهذا الصنف من البشر هو أسوأ مايُمكن أن تطلعَ عليه الشمس، وأسوأ مايكون عليه أي انسان.
دُعيتُ في ذات ليلة، من الليالي الغابرة، إلى وليمةِ عشاءٍ عند أحدِ معارفي، حضرها بعضُ أصحاب دولةٍ ومعالي، وأصحاب قلمٍ من كتاب وإعلاميين يعملون في ما يُعرف الآن بالصحافة الافتراضية (الإليكترونية).
تم ترتيب موائد الطعام على ثلاثة اشكال: يجلس في الأول أصحاب الدولة وبعض أصحاب المعالي، وبعض الكتاب الإعلاميين من ذوي الأشكال النظيفة والأقلام المتلونة. وفي الثاني يجلسُ بعض اصحاب المعالي وضيوف آخرين، ومعهم إعلاميين من ذوي الأشكال النظيفة والأقلام المُغتالة. أما في الثالث فيجلس رهط، كأن الله تعالى مسخ وجوههم مثلما مسخ عقولهم الفارغة وقلوبهم المسودة بفعل ما ران عليها من آثام وخطايا.
رأيت قلوب هذا الرهط متعطشة للأذى من اجل الكسب الحرام.
تسامر المدعون وتداولوا الآراء حول قضايا العامة والخاصة. وطُرح حولها كثيرٌ من المسائل، ولم يتم حسم إي منها. وبعد ما يزيد على ساعتين من النقاش الذي لم يفضِ إلى شيء، انفضَ الجمع، وبقيت المجموعة الأخيرة، وهي الرهط الذين مسخ الله سبحانه وتعالى وجوههم مثلما مسخ قلوبهم وعقولهم.
تألف ذلك الرهط من ثمانية اشخاص يعملون في الصحافة الافتراضية. وبدأوا بحديث اختلف عما كان في الجلسة الأولى، وبقيت استمع إلى احاديثهم واهتماماتهم . ومن تلك الأحاديث اكتشفت لأول مرةٍ في حياتي، وهو اكتشاف الهُبل، أن الصحافة الافتراضية الراهنة تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأول نظيف، هدفه ايصال المعلومة الصحيحة والكلمة الطيبة إلى مستهلكيها المحترفين، وذويقيها الطيبين. ويعيش هذا النوع على العمل التطوعي من الكتاب، وما تجود به أنفس الراغبين بالدعاية والإعلان.
الصنف الثاني ملوث، فيه من النظافة والوساخة. لكن النظافة فيه تطغى على الوساخة إلى حدٍ يمكّنُك عنده أن تعرف الغث من السمين، والصالح من الطالح. وتشبه حالته حال النهر الذي يلتقي مع لسان البحر في مكان ما، فيختلط الماءُ العذبُ مع المالح أو الآسن، لكن من السهل أن تفصل بين الأثنين.
أما النوع الثالث فهو وسخ بامتياز، تم تأسيسه من تآلف الشياطين البائسين. وقد يطرح أحدنا سؤالاً: هل هناك شيطان بائس؟ الجواب بكل نعم تأكيد. والسبب أن شياطين الجن قد تعجز عن ابتكار ما يقدر عليه شيطان الإنس. وهؤلاء الشياطين لايرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمة، ولا يخافون الله في ما يكتبوا ويقولوا، يتصيدون عثرات الناس بقصد ابتزازهم، فيهتكون الاعراض ويغتالون الأنفس الحرة، ويدخلون إلى عقول الناس بأقدامٍ وسخة. ويصنعون عالماً افتراضياً موبؤاً، هدفه الأول والأخير المال الحرام بالطرق السريعة، ومن خلال الابتزاز، وإرضاء من يدفع أتاوة أكثر.
قص أحد أفراد ذلك الرهط الملعون ما حدث معه قبل الوليمة بيومين: ( ... اتصلت بأبي أيمن وقلت له أن سيارتي معطلة وليس لدي من المال ما يكفي لإصلاحها ... أنا لم أقم بنشر خبر حجزك غرفة ليوم واحد في فندق غراند حياة يوم الخميس الماضي ... الساعة 12 ظهراً ... أنا أحبك يا أبا أيمن ... وأنت تعرف الحال ... ) وتابع قائلاً ( ... قال لي لاتهتم ... فهمت عليك ... لما لانحتسي القهوة في مكتبي صباح الغد ... ).
من المحتمل أن يكون هذا الشيطان قد ابتدع القصة برمتها، لكنني شعرت بعد حديثه بصدمة عظيمة، وأيقنت بأن السلطة الرابعة التي نفاخر بها قد تكون مستنقعاً ملوثأ، وصلت حدوده إلى سبخات آسنة بفعل الضفادع التي كثر نقيقها وتناسلت على نحوٍ مميت. ويوجد في هذا المستنقع من المفاسد ما يندى له الجبين. لكن المصيبة الأكثر شدة والماً هي أن هؤلاء الإعلاميين المبتورين الأفاقين قادرون على صنع عالمٍ حقيقي في عقول الناس، تتكون عناصره من هياكل مزورة وفاسدة. هذا العالم المبني على الاغتيال والنميمة والابتزاز ونبش القبور ونشر الرذيلة والشتم والوهم وتزوير الحقائق وقلبها إلى أباطيل تحت مرأى ومسمع الجميع، ولا أحدٌ يحرك ساكنة.
كانت لي في تلك الجلسة بعض المداخلات المتعلقة باخلاقيات ذلك العمل وهذه المهنة، فهمس صاحبي في أذني وقال أنصحك أن تنصت فقط، كي تفهم الموضوع حتى لاتكون ضحية لهم في يومٍ من الأيام. وتذكرت بعد هذا التنبيه ما كنت قرأته عن سيطرة إمبراطورية موردخ على وسائل الإعلام الغربية، وكيف يبنز عملاؤها وصحفيوها من يظنون أنه متنور، ويغتالون شخصية من يظنون أنه يعارض مصالحهم. ومع كل الحزن والأسف سار اعلاميونا من الطراز الوسخ على نهج عملاء وصحفيي إمبراطورية موردخ. لكن، وللأمانة، يبدو أن ثمن هؤلاء الوسخين أبخس من ثمن شراكِ حذاءٍ مستعمل.
لا أظن، والحال كذلك، أن الحرية تعني أن ينفلت هؤلاء الإعلاميون المبتورون إلى حد الاشمئزاز من ذات الحرية التي ننشد. وإذا كانت الحرية الإعلامية هكذا فإنا أفضل العيش في مجتمع يخلو من هذه الترهات، لأن الحرية في هذه الحال تنقلب إلى استبدادٍ لخلطاء الظلام الذين لايستحقوا إلا أن يُداسوا تحت أقدامنا دون رحمة. ولاينبغي، تحت أي ظرف مهما كان، أن ندعهم يدخلوا إلى عقولنا بأقدامهم الوسخة.
د. عبدالرزاق بني هاني
drbanihani@gmail.com