هل نملك رؤية إعلامية أم استراتيجيات غير قابلة للتنفيذ ؟
جهاد المومني
جو 24 : قبل أكثر من عشر سنوات عندما انشغلت الدولة الاردنية بمشروع التنمية السياسية طرحت سؤالا جعلته عنوانا لكتابي الأول في التنمية السياسية ( من أين نبدأ ؟ ) ,وقد حاولت الاجابة عن هذا السؤال الكبير بما تقتضيه التنمية السياسية في خطوتها الأولى في بلد لم يخض تجربة الدمقرطة بمفهومها الاشمل من قبل ,حيث لم يكن لدى الحكومات ولا لدى الاحزاب او النخب السياسية في الاردن برنامجا واضحا للتنمية السياسية في البلاد لانعدام الخبرة في هذا المجال ,ما وضع على طاولة النقاش مجرد اجتهادات واعتقادات وظلت كذلك الى اليوم تزين احيانا بشعارات تدغدغ عواطف الجمهور كهدف رئيس ,لكنها في الحقيقة لم تعد تعني له الكثير لكثرتها وقلة ترجماتها على ارض الواقع.
عند الحديث عن الاعلام لا يجدر بنا طرح سؤال : من أين نبدأ ؟ ذلك لاننا اصبحنا من ذوي الخبرات في تدشين البدايات وتكرارها والتجارب ولم نتعلم منها سواءا في الاعلام ام في التنمية الاقتصادية او السياسية او غير ذلك ,اليوم وبعد كل هذه السنين من التجريب في مجال الاعلام ومحاولات الابقاء على ما هو قديم وسائد باعتباره آمن وحصين ضد التجديد ,هذا التجريب الذ انحصر في الادارات وليس في الرؤى الاعلامية ,أجدنا لا زلنا نتخبط عند سؤال :كيف نبدأ ؟ او بماذا نبدأ ,وبالمحصلة سيوصنا الجواب الى ذات السؤال الذي طرحنا في معرض تناولنا للتنمية السياسية في الاردن والتي ظهرت كبرنامج للدولة في العام 2004 بتشجيع من المجتمع الدولي وليس بمبادرة ذاتية من الداخل ,ثم دخلت التنمية السياسية في غيبوبة اليأس من امكانية النجاح بدون تعديلات دستورية وقانون انتخاب يكفل الخروج من دائرة الصوت الواحد ,ومرت خمس سنوات من التردد في المضي بجرأة نحو تغييرات حقيقية تخرج البلد من حالة الاحباط الذي لم يصب العامة من الناس بقدر ما اطاح بثقة النخب الوطنية بالمستقبل وبالحكم بمفهومه الشامل للحكومات وللمؤسسات الرسمية كلها ,ثم حل العام 2010 ونحن ابعد ما نكون عن الاستعداد لأحداثه في تونس ومصر ,ولا زلنا الى اليوم نفاجأ باحداث متوقعة دون ان تستفزنا لنعد انفسنا إعلاميا ليس لمواجهتها وانما لاستقبالها والتعامل معها واحتواءها ,حتى احداث عام 2010 لم تحركنا بالقدر الكافي واعتقدنا ان ما جرى في مصر لا يمكن ان ينطبق على الاردن ,ولما تكاسلنا او عجزنا رحنا نبحث عن حلول أسهل وآمنة ايضا فأقنعنا انفسنا بمعتقدات ثلاثة حرصنا على تكريس التوجه الاعلامي وبرمجته لترويجها والتأكيد عليها في كل مناسبة :الاول ان الشعب الاردني يتميز بالوعي وما الى ذلك من مواصفات تجعله ابعد ما يكون عن الانتفاض للمطالبة بالاصلاح والخروج الى الشوارع احتجاجا على الفساد والتهميش والاقصاء وما آلت اليه أحوال الدولة الاردنية بعد أكثر من ستين سنة على استقلالها وأكثر من عشرين سنة على انطلاق (تجربتها ) الديمقراطية عام 1989,الثاني ان القيادة الهاشمية تكتسب شرعية مطلقة وتحظى باجماع الاردنيين على اختلاف اصولهم ومنابتهم ,اما الثالث فوهم التحالفات القادرة على حماية الدولة الاردنية من اية اخطار بما في ذلك التهديدات الداخلية.
صدق اعتقادنا الأول ,فالشعب الاردني يتميز بأعلى درجات الوعي والحرص والوطنية ,لكننا أغفلنا حقيقة ان هذا الشعب يتميز بوعيه وحرصه ووطنيته بقدر ما يمتلك من امتيازات وحريات تعود على انها حقوقا مكتسبة له ,ثم – وهذا هو الاهم – ما دام النظام يبادله الثقة ويقيم معه تحالفا غير قابل للالغاء او التعديل ,وصدقنا في اعتقادنا الثاني تماما فالنظام الهاشمي يحظى باجماع الاردنيين وهو النظام الوحيد في المنطقة الذي يقوم على شرعية شعبية مطلقة تسندها اعمدة دينية وحضارية وانسانية ,لكننا نسينا ان نربط هذه الشرعية دائما بمدى طمأنينة الاردنيين ورضاهم وسكينتهم وشعورهم بالتميز بين العرب وفوق ذلك سيادتهم الوطنية وهويتهم في بلدهم وعلى ارضهم ,اي اننا اغفلنا حقيقة ان المعتقد الثاني يرتبط بالأول بحيث لا يمكن فصلهما ,فالشعب الاردني متميز لما هو عليه من انتماء وطني عز نظيره وبالنظام الهاشمي الذي بايع وحمى مجتمعان لا أنفصال بينهما ,واي خلل في هذه المعادلة كفيل بتغييرها ,ويبقى المعتقد الثالث القائم على قناعة بعض رجالات الحكم واصحاب القرار والمحظيين بأن تحالفات الاردن مع العالم الغربي تحديدا كفيلة بحمايته من اي تغيير يفرض عليه ,ولكننا أغفلنا حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية باعتبارها الضامن الذي طالما اعتمدنا عليه ,كانت في العام 2010 تعد العدة لانسحاب مشرف من هذه التحالفات لترك شعوب المنطقة تقرر مصيرها حتى لو جاءت التغييرات في غير صالحها بل وضد مصالحها في بعض الحالات كما حدث في مصر ,اغفلنا حقيقة ان الولايات المتحدة ربما كانت تعد بدائل الحكم الجديد في أكثر من دولة عربية ,ولان ما يعرف بالعمى السياسي شتت انتباهنا الى ما هو أقل اهمية من بناء جبهة داخلية صلبة تمثل ضمانة البقاء الأهم والأقوى والأوثق ,اعتقدنا أن الاردن مستثنى من كل هذه الخطط والتدابير ليثبت لنا بعد سقوط نظام مبارك ان الولايات المتحدة لم تعد معنية ببقاء أي نظام صديق لا يستطيع حماية مصالحها بل حتى اذا عجز عن اقناع شعبه بهذه المصالح ما دامت واشنطن تقدم الحماية له وتدعم خزينة دولته بالمساعدات المالية وسياساته بالتأييد والاسناد فما هو المقابل اذن ؟
كما تبين لنا أن الولايات المتحدة لن تحمي انظمة حكم لا تستطيع فرض اسرائيل على شعوبها لتقبل بمعاهدات السلام الموقعة كما هي ,ولم يكن النظام المصري ولا الاردني بمقتنع بمعاهات السلام مع اسرائيل لكنهما قبلا بها بدوافع وطنية بحته وحماية للمصالح الوطنية لكل من مصر والاردن وهذا ما لم يعجب الاميركيين الذين ارادوا التعامل مع انظمة تابعة بالمطلق وقادرة على فرض اتفاقيات السلام ولو اقتضى الامر تجاهل وتجاوز ارادة الشعبين الاردني والمصري .
خسرنا رهاننا الثالث وبقي لدينا رهانا الوعي الوطني وشرعية النظام بما يشمل من حرص وخوف على الوطن ثم شرعية النظام المتعلقة اولا وأخيرا بوجود هذا الشعب وحيويته وقدرته على الفعل والتفاعل والتأثير واستيعاب الاحداث من حوله ثم حضوره من خلال ممثلين حقيقيين له ومنحه فرصة ان يكون شريكا في ترتيبات مستقبل الدولة وبرامجها وعدم تجاوزه او تزوير ارادته او العبث بعناصر تماسكه وعلى رأسها العشائرية بمفهومها التقليدي الراسخ في وجدان الاردنيين والذي لم يكن يشكل عائقا للتنمية بمختلف اشكالها .
اما بالنسبة للاعلام الاردني فقد اغفلناه على قاعدة انه شأن مؤجل لا يشكل خطرا كما هي الاصلاحات السياسية التي قدرت اهدافها بالشروع على عجل في بناء سد مؤقت يكفي لصد الطوفان القادم من دول الجوار العربي وخاصة سوريا بعد قيام الثورة هناك على اساس مطالبات بالاصلاح والديمقراطية ,كانت سوريا بالنسبة للاردنيين آخر القلاع التي يمكن ان تنهار امام مطالبات بالاصلاح والحريات والديمقراطية,هذه الحقيقة اغفلها صناع السياسات في الاردن ولذلك جاءت حلولهم سريعة ارتجالية اقتصرت في بداياتها على تشكيل لجنة الحوار الوطني التي لم يكن الاعلام احد بنود الحوار على جدول اعمالها ,في الاثناء كان الاعلام الاردني لا يزال عاجزا عن استيعاب الاحداث وتشخيص اثارها وتائها بين اسئلة لا يملك الاجابة عنها ومنها سؤال مركب :ماذا نفعل وكيف نعمل ؟
ولا يزال السؤال الى اليوم بلا اجابة واضحة ومعروفة حتى لصناع السياسات الاردنية ومهندسيها ,فالاعلام في حالة تيه لا يدري ماذا يفعل وكيف يعمل ومن أين او كيف يبدأ واي موقف يتبنى في ظل تردد رسمي بلغ حد التخبط في كل الاحوال ,ولولا اعتماده على عنصر التسويف والمماطلة والتأجيل كي يتعرف على خطوته التالية لكنا خسرنا البلد في اذار 2011 .
لم يفهم الاعلام استراتيجية ( الامن الناعم ) كمثال ,والي اي الاهداف ستوصل البلد ,ولذلك هاجمها الاعلام الرسمي دون ان يعي انها تدبير ذكي يعبر عن حكمة اسفرت نتائجها عن حماية الاردن والاردنيين من صدام خطير حتى لو كان الثمن بعض الاختلالات الامنية التي شهدناه في السنوات الاربع الماضية ,لم يتعرف الاعلام الاردني والرسمي منه بالذات على (كودات ) هذه الوصفة السحرية كي يتبناها او على الأقل كي يبررها لعامة الناس الذين فقدوا ما تبقى من ثقة بالحكم جراء حالة الانفلات التي سادت البلد كحصيلة طبيعية لما سمي (الامن الناعم ), هذا مثال واحد من بين عدة أمثلة على انفصال الاعلام عن جسد الدولة منذ مطلع عام 2011 ,والى اليوم ما زلنا نعيش هذه الحالة لدرجة يسود الاعتقاد ان الدولة تتخلى عن اعلامها وباتت تعتمد على اعلام آخر عابر للحدود في التعبير عن سياساتها وبرامجها, او انها تفضل الاعلام الاجتماعي ووسائط التواصل التكنولوجي والانترنت على ان تخوض معركة اصلاح الاعلام ,لماذا ؟ لان اصلاح الاعلام يحتاج الى ارادات لا خبرات والى نوايا لا قرارات فقط ,ولم تكن الحكومات الاردنية المتعاقبة والى اليوم تملك مثل هذه الرؤية ابدا لخلوها من خبرات اعلامية قديرة تجمع بين المعرفة والقدرة على اتخاذ قرار الاصلاح بحذافيره بدون تدخلات ومحاذير هشة تجاوزها الاعلام الموازي ,ولذلك تمسكت الحكومات العاجزة بأساليب بالية في التغيير وأكتفت بمواصلة سياسة تجريب الادارات وتدويرها بين المؤسسات الاعلامية ثم تحميلها مسؤولية الفشل الحتمي ,وقد كان عليها ولا يزال الاكتفاء بوضع تصورات موجزة للاعلام (رؤية اعلامية ) بدون استراتيجيات تتشكل من أجلها اللجان ودون الحاجة الى كتابتها وتجليدها في ملفات انيقة وتوزيعها على وسائل الاعلام للترويج لخطط غير واقعية واحيانا غير موجودة اصلا الا في النظريات والخطط المكتوبة والخطابات والتصريحات .
الرؤية الاعلامية هي بديل الاستراتيجيات المعقدة المطولة كثيرة التوصيات والخلاصات التي تشبه توصيات وخلاصات مؤتمرات الأنظمة الشمولية تبقى حبرا على ورق ,والرؤية الاعلامية تعتمد على عاملين اساسيين ,معرفة تامة بما تريده الدولة بالاستناد الى مصالحها وثوابتها الوطنية من جهة ,ثم الوعي التام بما يحتاج الاردنيون لمعرفته لحماية هذه المصالح والمحافظة على هذه الثوابت,ومن هنا تبدأ ورشة العمل من أجل ترجمة المراد وتلبية الحاجة في قوالب اعلامية تعد وفق المطلوب والممكن بلا تهويل ولا مبالغة حتى في مديح المنجزات الكبيرة ,فالمنجز لا يكون أكبر من صاحبة ولا يتقدم عليه ,فما دام الانسان هو من ينجز اذن فهو اعظم شأنا من الانجازات كلها ,وما دام الانسان هو اساس الاصلاح وغايته اذن فهو يتقدم عليه ,فالاصلاح وسيلة والانسان هدف ,واذا كانت الغاية من الاعلام هي صناعة الرأي العام فلا يمكن اذن ان يتحقق هذا الهدف الكبير بمعزل عن الانسان فهو شريك في المعادلة الأشمل وهي بناء الدولة الديمقراطية ,دولة الحقوق والحريات والواجبات ,ولكن رسالة الاعلام او رؤيته يجب ان تتضمن وظائف أخرى لها علاقة مباشرة بالخصوصيات الوطنية وبالثوابت والمصالح العليا للدولة ,فالمواطن الشريك لن يقتنع ان منع المعارضة من اسماع صوتها عبر وسائل الاعلام الرسمية يخدم مصالح الدولة ,ولن يقبل من الاعلام ان يكون مرآة لجهة واحدة من المشهد الوطني وهي الموالاة ,لان المعارضة تملك ذات الخيار الذي تملكه الموالاة وستلجأ الى خيارها وهو الاعلام الموازي لتكون حاضرة فيه ولا يجري تجاهلها او تجاوز رأيها او انتهاك حقوقها اذا سلمنا بحقيقة أنها معارضة وطنية غايتها تناوب السلطة على اسس ديمقراطية كان جلالة الملك قد تناول هذا الاستحقاق الديمقراطي في اوراقه النقاشية في محور الحكومات البرلمانية,في هذه الحالة من القسمة ما بين موالاة ومعارضة نسقط في فخ الاستقطاب والانحيازات والشللية ,وتتشكل بيئة مواتية للولاءات الخارجية ويظهر طابور خامس يعلن عن نفسه ويظهر في الصفوف الاولى ,الى آخر قائمة طويلة من أعراض المجتمعات المريضة الضعيفة .
ان الدولة التي منحت تراخيص البث الاذاعي والتلفزيوني لمن يريد عليها ان ترفع من سقف اعلامها ليشمل الموالاة والمعارضة والا خسرت معركة صناعة الرأي العام وفقدت تأثيرها بين الناس وقدرتها على تنفيذ برامجها الاصلاحية سواءا تعلق الامر بالاصلاحات السياسية او الاقتصادية او غيرها ,فالثقة لها اساس واحد هو الشراكة وليس خطاب الطرف الواحد.
خلاصة القول في هذا الشأن ,ليس على الاعلام ان يتلقى أوامر وتوجيهات او يعد الاستراتيجيات كي ينفذ برامج الدولة او حتى برامج الحكومات,, وأضيف هنا البرامج الأمنية كمهمة منفصلة كبيرة في هذا الوقت بالذات ,في كل الأحوال على الاعلام ان يمتلك رؤية من البساطة بحيث تكون مفهومة وقابلة للتنفيذ توضع بأقل قدر من الكلمات والبنود بالتوافق بين الخبراء واصحاب الشأن وتختبر من خلال الممارسة والعمل مع الاحداث في الداخل والخارج ويعاد اصلاحها بل وحتى استبدالها في كل الاوقات ووفقا للمتغيرات ولما تريده الدولة ويحتاجة الناس للابقاء على تعبئتهم الاعلامية مشحونة بالمعرفة والرأي الأقرب الى موقف الدولة .
ان افضل الخطط هي تلك القابلة للتنفيذ اما اروعها فتلك التي تنفذ فعلا ,وبقدر ابتعادنا عن فلسفة رسالة الاعلام وتعقيدها بالنظريات غير القابلة للفهم والاستيعاب من قبل المنفذين لها وما قد يسفر عن ذلك من ارباك وتردد,بقدر ما نقترب من الاهداف الإعلامية الممكنة والقابلة للتحديث بتكبيرها او تصغيرها وفقا للمقتضى وبناءا على المعطيات والمستجدات .
عند الحديث عن الاعلام لا يجدر بنا طرح سؤال : من أين نبدأ ؟ ذلك لاننا اصبحنا من ذوي الخبرات في تدشين البدايات وتكرارها والتجارب ولم نتعلم منها سواءا في الاعلام ام في التنمية الاقتصادية او السياسية او غير ذلك ,اليوم وبعد كل هذه السنين من التجريب في مجال الاعلام ومحاولات الابقاء على ما هو قديم وسائد باعتباره آمن وحصين ضد التجديد ,هذا التجريب الذ انحصر في الادارات وليس في الرؤى الاعلامية ,أجدنا لا زلنا نتخبط عند سؤال :كيف نبدأ ؟ او بماذا نبدأ ,وبالمحصلة سيوصنا الجواب الى ذات السؤال الذي طرحنا في معرض تناولنا للتنمية السياسية في الاردن والتي ظهرت كبرنامج للدولة في العام 2004 بتشجيع من المجتمع الدولي وليس بمبادرة ذاتية من الداخل ,ثم دخلت التنمية السياسية في غيبوبة اليأس من امكانية النجاح بدون تعديلات دستورية وقانون انتخاب يكفل الخروج من دائرة الصوت الواحد ,ومرت خمس سنوات من التردد في المضي بجرأة نحو تغييرات حقيقية تخرج البلد من حالة الاحباط الذي لم يصب العامة من الناس بقدر ما اطاح بثقة النخب الوطنية بالمستقبل وبالحكم بمفهومه الشامل للحكومات وللمؤسسات الرسمية كلها ,ثم حل العام 2010 ونحن ابعد ما نكون عن الاستعداد لأحداثه في تونس ومصر ,ولا زلنا الى اليوم نفاجأ باحداث متوقعة دون ان تستفزنا لنعد انفسنا إعلاميا ليس لمواجهتها وانما لاستقبالها والتعامل معها واحتواءها ,حتى احداث عام 2010 لم تحركنا بالقدر الكافي واعتقدنا ان ما جرى في مصر لا يمكن ان ينطبق على الاردن ,ولما تكاسلنا او عجزنا رحنا نبحث عن حلول أسهل وآمنة ايضا فأقنعنا انفسنا بمعتقدات ثلاثة حرصنا على تكريس التوجه الاعلامي وبرمجته لترويجها والتأكيد عليها في كل مناسبة :الاول ان الشعب الاردني يتميز بالوعي وما الى ذلك من مواصفات تجعله ابعد ما يكون عن الانتفاض للمطالبة بالاصلاح والخروج الى الشوارع احتجاجا على الفساد والتهميش والاقصاء وما آلت اليه أحوال الدولة الاردنية بعد أكثر من ستين سنة على استقلالها وأكثر من عشرين سنة على انطلاق (تجربتها ) الديمقراطية عام 1989,الثاني ان القيادة الهاشمية تكتسب شرعية مطلقة وتحظى باجماع الاردنيين على اختلاف اصولهم ومنابتهم ,اما الثالث فوهم التحالفات القادرة على حماية الدولة الاردنية من اية اخطار بما في ذلك التهديدات الداخلية.
صدق اعتقادنا الأول ,فالشعب الاردني يتميز بأعلى درجات الوعي والحرص والوطنية ,لكننا أغفلنا حقيقة ان هذا الشعب يتميز بوعيه وحرصه ووطنيته بقدر ما يمتلك من امتيازات وحريات تعود على انها حقوقا مكتسبة له ,ثم – وهذا هو الاهم – ما دام النظام يبادله الثقة ويقيم معه تحالفا غير قابل للالغاء او التعديل ,وصدقنا في اعتقادنا الثاني تماما فالنظام الهاشمي يحظى باجماع الاردنيين وهو النظام الوحيد في المنطقة الذي يقوم على شرعية شعبية مطلقة تسندها اعمدة دينية وحضارية وانسانية ,لكننا نسينا ان نربط هذه الشرعية دائما بمدى طمأنينة الاردنيين ورضاهم وسكينتهم وشعورهم بالتميز بين العرب وفوق ذلك سيادتهم الوطنية وهويتهم في بلدهم وعلى ارضهم ,اي اننا اغفلنا حقيقة ان المعتقد الثاني يرتبط بالأول بحيث لا يمكن فصلهما ,فالشعب الاردني متميز لما هو عليه من انتماء وطني عز نظيره وبالنظام الهاشمي الذي بايع وحمى مجتمعان لا أنفصال بينهما ,واي خلل في هذه المعادلة كفيل بتغييرها ,ويبقى المعتقد الثالث القائم على قناعة بعض رجالات الحكم واصحاب القرار والمحظيين بأن تحالفات الاردن مع العالم الغربي تحديدا كفيلة بحمايته من اي تغيير يفرض عليه ,ولكننا أغفلنا حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية باعتبارها الضامن الذي طالما اعتمدنا عليه ,كانت في العام 2010 تعد العدة لانسحاب مشرف من هذه التحالفات لترك شعوب المنطقة تقرر مصيرها حتى لو جاءت التغييرات في غير صالحها بل وضد مصالحها في بعض الحالات كما حدث في مصر ,اغفلنا حقيقة ان الولايات المتحدة ربما كانت تعد بدائل الحكم الجديد في أكثر من دولة عربية ,ولان ما يعرف بالعمى السياسي شتت انتباهنا الى ما هو أقل اهمية من بناء جبهة داخلية صلبة تمثل ضمانة البقاء الأهم والأقوى والأوثق ,اعتقدنا أن الاردن مستثنى من كل هذه الخطط والتدابير ليثبت لنا بعد سقوط نظام مبارك ان الولايات المتحدة لم تعد معنية ببقاء أي نظام صديق لا يستطيع حماية مصالحها بل حتى اذا عجز عن اقناع شعبه بهذه المصالح ما دامت واشنطن تقدم الحماية له وتدعم خزينة دولته بالمساعدات المالية وسياساته بالتأييد والاسناد فما هو المقابل اذن ؟
كما تبين لنا أن الولايات المتحدة لن تحمي انظمة حكم لا تستطيع فرض اسرائيل على شعوبها لتقبل بمعاهدات السلام الموقعة كما هي ,ولم يكن النظام المصري ولا الاردني بمقتنع بمعاهات السلام مع اسرائيل لكنهما قبلا بها بدوافع وطنية بحته وحماية للمصالح الوطنية لكل من مصر والاردن وهذا ما لم يعجب الاميركيين الذين ارادوا التعامل مع انظمة تابعة بالمطلق وقادرة على فرض اتفاقيات السلام ولو اقتضى الامر تجاهل وتجاوز ارادة الشعبين الاردني والمصري .
خسرنا رهاننا الثالث وبقي لدينا رهانا الوعي الوطني وشرعية النظام بما يشمل من حرص وخوف على الوطن ثم شرعية النظام المتعلقة اولا وأخيرا بوجود هذا الشعب وحيويته وقدرته على الفعل والتفاعل والتأثير واستيعاب الاحداث من حوله ثم حضوره من خلال ممثلين حقيقيين له ومنحه فرصة ان يكون شريكا في ترتيبات مستقبل الدولة وبرامجها وعدم تجاوزه او تزوير ارادته او العبث بعناصر تماسكه وعلى رأسها العشائرية بمفهومها التقليدي الراسخ في وجدان الاردنيين والذي لم يكن يشكل عائقا للتنمية بمختلف اشكالها .
اما بالنسبة للاعلام الاردني فقد اغفلناه على قاعدة انه شأن مؤجل لا يشكل خطرا كما هي الاصلاحات السياسية التي قدرت اهدافها بالشروع على عجل في بناء سد مؤقت يكفي لصد الطوفان القادم من دول الجوار العربي وخاصة سوريا بعد قيام الثورة هناك على اساس مطالبات بالاصلاح والديمقراطية ,كانت سوريا بالنسبة للاردنيين آخر القلاع التي يمكن ان تنهار امام مطالبات بالاصلاح والحريات والديمقراطية,هذه الحقيقة اغفلها صناع السياسات في الاردن ولذلك جاءت حلولهم سريعة ارتجالية اقتصرت في بداياتها على تشكيل لجنة الحوار الوطني التي لم يكن الاعلام احد بنود الحوار على جدول اعمالها ,في الاثناء كان الاعلام الاردني لا يزال عاجزا عن استيعاب الاحداث وتشخيص اثارها وتائها بين اسئلة لا يملك الاجابة عنها ومنها سؤال مركب :ماذا نفعل وكيف نعمل ؟
ولا يزال السؤال الى اليوم بلا اجابة واضحة ومعروفة حتى لصناع السياسات الاردنية ومهندسيها ,فالاعلام في حالة تيه لا يدري ماذا يفعل وكيف يعمل ومن أين او كيف يبدأ واي موقف يتبنى في ظل تردد رسمي بلغ حد التخبط في كل الاحوال ,ولولا اعتماده على عنصر التسويف والمماطلة والتأجيل كي يتعرف على خطوته التالية لكنا خسرنا البلد في اذار 2011 .
لم يفهم الاعلام استراتيجية ( الامن الناعم ) كمثال ,والي اي الاهداف ستوصل البلد ,ولذلك هاجمها الاعلام الرسمي دون ان يعي انها تدبير ذكي يعبر عن حكمة اسفرت نتائجها عن حماية الاردن والاردنيين من صدام خطير حتى لو كان الثمن بعض الاختلالات الامنية التي شهدناه في السنوات الاربع الماضية ,لم يتعرف الاعلام الاردني والرسمي منه بالذات على (كودات ) هذه الوصفة السحرية كي يتبناها او على الأقل كي يبررها لعامة الناس الذين فقدوا ما تبقى من ثقة بالحكم جراء حالة الانفلات التي سادت البلد كحصيلة طبيعية لما سمي (الامن الناعم ), هذا مثال واحد من بين عدة أمثلة على انفصال الاعلام عن جسد الدولة منذ مطلع عام 2011 ,والى اليوم ما زلنا نعيش هذه الحالة لدرجة يسود الاعتقاد ان الدولة تتخلى عن اعلامها وباتت تعتمد على اعلام آخر عابر للحدود في التعبير عن سياساتها وبرامجها, او انها تفضل الاعلام الاجتماعي ووسائط التواصل التكنولوجي والانترنت على ان تخوض معركة اصلاح الاعلام ,لماذا ؟ لان اصلاح الاعلام يحتاج الى ارادات لا خبرات والى نوايا لا قرارات فقط ,ولم تكن الحكومات الاردنية المتعاقبة والى اليوم تملك مثل هذه الرؤية ابدا لخلوها من خبرات اعلامية قديرة تجمع بين المعرفة والقدرة على اتخاذ قرار الاصلاح بحذافيره بدون تدخلات ومحاذير هشة تجاوزها الاعلام الموازي ,ولذلك تمسكت الحكومات العاجزة بأساليب بالية في التغيير وأكتفت بمواصلة سياسة تجريب الادارات وتدويرها بين المؤسسات الاعلامية ثم تحميلها مسؤولية الفشل الحتمي ,وقد كان عليها ولا يزال الاكتفاء بوضع تصورات موجزة للاعلام (رؤية اعلامية ) بدون استراتيجيات تتشكل من أجلها اللجان ودون الحاجة الى كتابتها وتجليدها في ملفات انيقة وتوزيعها على وسائل الاعلام للترويج لخطط غير واقعية واحيانا غير موجودة اصلا الا في النظريات والخطط المكتوبة والخطابات والتصريحات .
الرؤية الاعلامية هي بديل الاستراتيجيات المعقدة المطولة كثيرة التوصيات والخلاصات التي تشبه توصيات وخلاصات مؤتمرات الأنظمة الشمولية تبقى حبرا على ورق ,والرؤية الاعلامية تعتمد على عاملين اساسيين ,معرفة تامة بما تريده الدولة بالاستناد الى مصالحها وثوابتها الوطنية من جهة ,ثم الوعي التام بما يحتاج الاردنيون لمعرفته لحماية هذه المصالح والمحافظة على هذه الثوابت,ومن هنا تبدأ ورشة العمل من أجل ترجمة المراد وتلبية الحاجة في قوالب اعلامية تعد وفق المطلوب والممكن بلا تهويل ولا مبالغة حتى في مديح المنجزات الكبيرة ,فالمنجز لا يكون أكبر من صاحبة ولا يتقدم عليه ,فما دام الانسان هو من ينجز اذن فهو اعظم شأنا من الانجازات كلها ,وما دام الانسان هو اساس الاصلاح وغايته اذن فهو يتقدم عليه ,فالاصلاح وسيلة والانسان هدف ,واذا كانت الغاية من الاعلام هي صناعة الرأي العام فلا يمكن اذن ان يتحقق هذا الهدف الكبير بمعزل عن الانسان فهو شريك في المعادلة الأشمل وهي بناء الدولة الديمقراطية ,دولة الحقوق والحريات والواجبات ,ولكن رسالة الاعلام او رؤيته يجب ان تتضمن وظائف أخرى لها علاقة مباشرة بالخصوصيات الوطنية وبالثوابت والمصالح العليا للدولة ,فالمواطن الشريك لن يقتنع ان منع المعارضة من اسماع صوتها عبر وسائل الاعلام الرسمية يخدم مصالح الدولة ,ولن يقبل من الاعلام ان يكون مرآة لجهة واحدة من المشهد الوطني وهي الموالاة ,لان المعارضة تملك ذات الخيار الذي تملكه الموالاة وستلجأ الى خيارها وهو الاعلام الموازي لتكون حاضرة فيه ولا يجري تجاهلها او تجاوز رأيها او انتهاك حقوقها اذا سلمنا بحقيقة أنها معارضة وطنية غايتها تناوب السلطة على اسس ديمقراطية كان جلالة الملك قد تناول هذا الاستحقاق الديمقراطي في اوراقه النقاشية في محور الحكومات البرلمانية,في هذه الحالة من القسمة ما بين موالاة ومعارضة نسقط في فخ الاستقطاب والانحيازات والشللية ,وتتشكل بيئة مواتية للولاءات الخارجية ويظهر طابور خامس يعلن عن نفسه ويظهر في الصفوف الاولى ,الى آخر قائمة طويلة من أعراض المجتمعات المريضة الضعيفة .
ان الدولة التي منحت تراخيص البث الاذاعي والتلفزيوني لمن يريد عليها ان ترفع من سقف اعلامها ليشمل الموالاة والمعارضة والا خسرت معركة صناعة الرأي العام وفقدت تأثيرها بين الناس وقدرتها على تنفيذ برامجها الاصلاحية سواءا تعلق الامر بالاصلاحات السياسية او الاقتصادية او غيرها ,فالثقة لها اساس واحد هو الشراكة وليس خطاب الطرف الواحد.
خلاصة القول في هذا الشأن ,ليس على الاعلام ان يتلقى أوامر وتوجيهات او يعد الاستراتيجيات كي ينفذ برامج الدولة او حتى برامج الحكومات,, وأضيف هنا البرامج الأمنية كمهمة منفصلة كبيرة في هذا الوقت بالذات ,في كل الأحوال على الاعلام ان يمتلك رؤية من البساطة بحيث تكون مفهومة وقابلة للتنفيذ توضع بأقل قدر من الكلمات والبنود بالتوافق بين الخبراء واصحاب الشأن وتختبر من خلال الممارسة والعمل مع الاحداث في الداخل والخارج ويعاد اصلاحها بل وحتى استبدالها في كل الاوقات ووفقا للمتغيرات ولما تريده الدولة ويحتاجة الناس للابقاء على تعبئتهم الاعلامية مشحونة بالمعرفة والرأي الأقرب الى موقف الدولة .
ان افضل الخطط هي تلك القابلة للتنفيذ اما اروعها فتلك التي تنفذ فعلا ,وبقدر ابتعادنا عن فلسفة رسالة الاعلام وتعقيدها بالنظريات غير القابلة للفهم والاستيعاب من قبل المنفذين لها وما قد يسفر عن ذلك من ارباك وتردد,بقدر ما نقترب من الاهداف الإعلامية الممكنة والقابلة للتحديث بتكبيرها او تصغيرها وفقا للمقتضى وبناءا على المعطيات والمستجدات .