jo24_banner
jo24_banner

الحكومات لا تتذمر ولا تشتكي وانما تتخذ القرارات

جهاد المومني
جو 24 : الحكومات الاردنية دستوريا صاحبة الولاية العامة،اي انها مسؤولة عن جميع القضايا ذات الصلة بحياة المواطنين،التعليم والعمل والصحة والمأكل والمشرب والأمن الداخلي والنظام العام وادارة الدولة ،وكذلك جميع القضايا ذات الصلة بالوطن السياسة والسيادة والأمن والعلاقات مع العالم الخارجي اضافة الى القضايا الاستراتيجية والمصيرية الكبيرة ،هذا بموجب الدستور الاردني بجميع تعديلاته، ولكن هل الحكومات الاردنية صاحبة ولاية عامة بالفعل؟

تتواضع الحكومات الاردنية وتكتفي بمسؤولية محدودة عن الشؤون الخدمية ،لكنها ومن موقع المحايد تبدي الانزعاج من الحالة السياسية السائدة ومن اية منغصات سياسية او استراتيجية او امنية وليس أكثر من الانزعاج،ومثلها مثل المواطنين المغلوب على امرهم لا تترك فرصة للشكوى الا وتستغلها لتضع نفسها شريكا للناس في همومهم ومنغصات حياتهم ،وهذا شأن الحكومات في جميع الدول التي لا تخضع فيها السلطات التنفيذية لرقابة حكومات الظل والبرلمانات والاحزاب والاعلام ، لكن هذه الحكومة بالذات تحسن لعب دور الضحية بامتياز ،وقد استهل رئيسها عهده بالشكوى والتذمر أكثر من اغداق الوعود وطرح الافكار والبرامج والخطط على عكس بعض الرؤساء الذين سبقوه ومارسوا سياسة تقديم الوعود دون ادنى احساس بالمسؤولية عن الوفاء بها ،لم ينجحوا على عكس الدكتور عبد الله النسور الذي ظل لصيقا بالهموم اليومية للناس من موقع الشاكي وليس المسؤول ،فأستهل ولايته بفتح مخزن الهموم الوطنية الاردنية بما يحتويه من فقر وبطالة وفساد وترهل، لكنه حرص على تسجيل انجازه الأبرز في الشأن الاقتصادي لتعويض عجز الموازنة المتراكم منذ سنوات ،فوجد الحل في رفع الحماية عن دخول الاردنيين المتدنية اصلا وكان من الطبيعي ان تحقق الموازنة العامة للدولة بعض التحسن .

لجأ الرئيس الى الاعلام المتلفز لوضع روزنامه محكمة لبرنامجه الحكومي للتذمر والشكوى تمهيدا للقرارات الثقيلة ،فحقق بعض العوائد من فواتير الكهرباء والمياه والاتصالات واسطوانة الغاز وكان من الطبيعي ان ترتفع اسعار جميع السلع بالتضامن ،لكنه مع ذلك تجاهل في شكاويه المتلفزة الحلول الجذرية ذات الصلة بتحفيز الانتاج وتغيير ثقافة المجتمع الاستهلاكية والعمل على الغاء الاتكالية بالاعتماد على المساعدات الخارجية من ثقافة الدولة الاردنية ،اي انه عمليا التزم بمباديء الحكومات الاردنية المتعاقبة القائمة على الانشغال بأسرع وأبسط الحلول ومعالجة الاعراض دون المساس بأسباب الامراض وأصولها، وهو بذلك يعترف أنه كغيره من الرؤساء منقوص الصلاحيات وان حكومته لن تفعل شيئا لتغيير لاستراتيجيات الخاطئة المتوارثة ولكنها تستطيع اعطاء الحقن المسكنة للمواطنين كاجراء روتيني تقليدي ايضا ،فالرئيس من الذكاء والحنكة بحيث يعرف تمام المعرفة ان القرارات الكبيرة تحتاج الى ولاية عامة وكبيرة ،ولأن الولاية العامة مجرد نص دستوري ترك الرئيس ما لغيره لغيره واكتفى بما لا يضعه امام مسؤولية اتخاذ القرارات المصيرية المهمة .

اشتكى الرئيس مثل اي مواطن اردني من حجم الفاتورة المترتبة على استضافة الاردن لمئات آلاف اللاجئين السوريين ،لكنه اكتفى بالشكوى دون أن يضع امام الشعب فكرة واحدة لمواجهة كارثة اللجوء السوري غير مخاطبة المجتمع الدولي لزيادة حجم المعونات ومساعدة الاردن لتجاوز هذه الازمة ،اي انه عمليا يطالب المجتمع الدولي اتخاذ القرارات نيابة عن الحكومة الاردنية ،ويستغرب المراقبون كيف لرئيس الحكومة الا يتحدث عن اجراءات في صميم صلاحية حكومته مثل وقف عمليات استقبال اللاجئين ومنع دخولهم أو عن اية اجراءات عملية تعكس حجم الكارثة التي تحل ببلد يعتبر فيه الرئيس الولي على شؤونه ،فكرة كانت ستراود اي رئيس حكومة في اي بلد في العالم يتحدث باعتباره ممثلا للحكومة صاحبة القرار وليس بصفته ناقلا لصوت الشعب وواصفا لأوجاعه وهمومه، فالشكوى في منطق المسؤولية ونواميسها ليست من شيم الحكومات وانما لها ،فمتى مارست الحكومات دور المواطنين في التذمر عليها افساح الطريق للحكومات الأكثر شجاعة كي تقوم بواجب معالجة المرض بوضع الحلول الجذرية ووصف الادوية والعلاجات واجراء الجراحات اللازمة وليس اللطم ودب الصوت،فالمريض في غرفة العمليات والوقت ينفذ..!

صحيح أن التذمر هو اقصى ما يمكن لهذه الحكومة ان تفعله ،لكنها فوق ذلك لا تتذمر من كل المصائب والمخاطر المحتملة ،فهي لا ترى نفسها مسؤولة عن القضايا الحساسة ولذلك لا تتذمر منها استجابة لما تملك من صلاحيات ،فمثلا لم يتحدث الرئيس في اي من مقابلاته عن الفاتورتين السياسية والامنية لوجود حوالي مليون ونصف المليون لاجئ سوري على ارض المملكة ،واذا تحدث ففي قشور هاتين القضيتين المؤرقتين ،الى ان قرع وزير الخارجية جرس الانذار عندما ذكر رقما مهولا لاعداد اللاجئين السوريين،فذكر ان نسبتهم في المجتمع الاردني تساوي ما يزيد قليلا عن 20 % من عدد السكان ،فاذا كان الاردن عمليا يعترف بوجود حوالي مليون لاجئ فلسطيني (حسب ارقام التسعينيات من القرن الماضي ) فأن نسبة اللاجئين السوريين والفلسطينيين والليبيين والعراقيين وغيرهم في الاردن تتجاوز اليوم ما نسبته 50 % من عدد سكان الاردن ،وهذا الرقم كفيل باثارة الفزع عند اي مسؤول في اية حكومة مهما بلغت من التراخي والتقاعس عن الأخذ بصلاحياتها وتأدية ابسط الواجبات كما هي في الدستور في البند المتعلق بالولاية العامة في الشأنين الداخلي والخارجي (المادة 45 من الدستور الاردني ).

وزير الخارجية ذكرنا بالخطر الداهم باعتبار اللاجئين قضية خارجية ومن مسؤولية المجتمع الدولي وليست شأنا داخليا ،لأنها لو كانت كذلك لوردت مثل هذه الارقام المفزعة على لسان وزير الداخلية ،فالرسالة من لغة الارقام لم تكن للاردنيين لاطلاعهم على الحقائق ووضعهم في حالة تأهب قصوى استعدادا لما هو اسوأ ، وانما رسالة للخارج وللدول المانحة بالتحديد لتذكرهم بضرورة اتخاذ القرارات نيابة عن الحكومة الاردنية والمطلوب في هذه الحالة اغاثة طارئة لتعويض ما يتكبده الاردن من خسائر جراء استقباله اللاجئين السوريين ،فالاردن اليوم – حسب الحكومة - لا يشكو الاوضاع الأمنية والسياسية وانما الاقتصادية ، ولا يتحدث بلغة الدولة صاحبة السيادة وانما بلغة الضحية صاحبة الحاجة الى العون والغوث العاجل ،وما من مسؤول في الحكومة يتحدث عن اجراءات عملية لمعالجة كارثة حقيقية تحيق بالاردن وتهدد امنه وسيادته في وقت لاحق .

الشعب ايضا بمؤسساته المدنية واحزابه وممثليه لا يبدو مهتما بالكارثة ،ومثله مثل الحكومات يتذمر دون ان يبدي ترجمة لقلقه بأي شكل من اشكال الحراك لممارسة الضغط على اصحاب القرار كما تفعل الشعوب الاخرى ،والتركيز هنا على مؤسسات التمثيل الشعبي التي يفترض أن تكون مثل هذه الكوارث على رأس أولوياتها وفي مقدمة برامجها وخططها ،فما هو سر الصمت الذي يلتزمه النواب ازاء قضية تتقدم اليوم على اية قضية اخرى بما في ذلك التشريعات المدرجة على جدول اعمال الدورة البرلمانية الاستثنائية ،وما هو التفسير المنطقي لتغاضي الاحزاب الاردنية عن قضية بحجم قضية اللاجئين ؟

من الواضح تماما أن جميع الجهات الرقابية والتنفيذية والتشريعية تنتظر قرارا بهذا الخصوص ،فالاعلام على سبيل المثال لا الحصر بدلا من ان يقود الرأي العام ويعطي المسؤولين دفعة من الحماس للتحرك ينتظر هو الآخر قرارا كي يتحدث ويقول كلمته فيأتي ثانيا بدلا من ان يحتل موقعه اولا كما يفترض ،وهو بذلك يشبه مجلس النواب الذي لا يبدي اي اعتراض يذكر على فوضى اللجوء ولا يطرح الاسئلة ولا يطلب الاستجوابات ولا يحاكم الحكومة تحت القبة على اهمالها لأهم قضية تواجة الشعب الاردني ،والاحزاب التي تدب الصوت معترضة على مهرجانات الفنون والثقافة لا يبدو ان من اولوياتها قضية اللجوء الكارثي الى الاردن .

نجاح الحكومة في استراتيجية التذمر يعتمد على عامل رئيسي هو عدم معرفة الناس بواجبات الحكومة واساسها اتخاذ القرارات وتنفيذها وليس العويل والتحسر ،ويجب الا تنطلي هذه الخديعة على الناس ،فما تفعله الحكومة ورئيسها من لعب بورقة العواطف يعني تأجيل الحلول التي لا تملكها والتسويف وكسب الوقت الى حين انتهاء اجل هذه الحكومة فتلقي بالمسؤولية على غيرها وتخرج مظفرة بعيون البعض الذين يعتقدون بسذاجة ان الحكومة حاولت ولكنها لم تستطع بدليل اعتراف الرئيس وشكواه قصر اليد وعدم القدرة على اتخاذ القرار ،والصحيح ان الصلاحيات لا تسلب من الحكومات سلبا ،وانما تتنازل عنها بعض الحكومات طوعا حتى لا تدخل في اشكالية القرارات الكبيرة ،فمثل هذه القرارات تترك للملك فتضعه في موقع المسؤولية المباشرة رغم النص الدستوري الواضح ( الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية ) المادة 30 من الدستور ،وهذه المادة الدستورية لا تتناقض مع صلاحيات مجلس الوزراء كما ترد في المادة 45 من الدستور ،بل تزيدها تأكيدا على أن الحكومة هي المسؤولة في كل الاحوال والظروف عن اية قرارات تتخذها ،او توجيهات او تعليمات يصدرها الملك،لكننا تعودنا منذ عقدين من الزمن او يزيد على حكومات تتملص من القضايا الحساسة -او ما تعرف بأنها كذلك - وتتنازل بدهاء عن صلاحياتها باتخاذ القرارات بشأنها بالاعتماد على اعتقاد خاطئ بأن من يتحمل المسؤولية عنها هو الملك ،اي ان الحكومات عمليا تختبئ خلف الملك وتخص نفسها بالقرارات البسيطة والسطحية التي تحتمل اللوم لكنها لا تتطلب الشجاعة الكافية لمعالجتها بحلول مكلفة ناجعة تضع الحكومات امام المسائلة ،وما يشجع الحكومات على المضي في استراتجية التذمر مثلها مثل المواطنين اعتمادها على سطحية المعالجة النيابية للاخطاء كبيرة كانت ام صغيرة من جهة ،واعتمادها على جهل الكثير من النواب بصلاحيات الحكومات او ربما قبولهم بما اختارت من هذه الصلاحيات من جهة أخرى ،فما يريده النواب من الحكومات ليس قرارات بحجم معالجة قضية اللاجئين او السياسة الخارجية الاردنية وانما خدمات عادية بمستوى التعيين والترقية وقبول الواسطات لخدمة المناطق الانتخابية والناخبين.

تابعو الأردن 24 على google news