2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

إذ تختنق الحرية...

د.موسى برهومة
جو 24 :

عندما رقص أتباع جماعة «أنصار الدين» في تمبكتو على أنقاض الأضرحة التي ندّ هدمها عن روح انتقامية متأصلة، كان ثمة رسالة ثاوية في ذلك الفعل مفادها أن الفكرة الخلاصية التي تبشّر بها الجماعة الدينية الثورية لا تزال أسيرة الإكراه الإيديولوجي الذي لا يضيره لو انتسب إلى أزمنة الماضي السحيق، أو هزيء بمنجزات الحضارة التاريخية، أو تصادم مع الوجدان الديني الذي كان يتخذ من تلك الأضرحة وسيلة لإشباع الروح بالرضى العزيز المنال.

فعل الهدم جرى بعد ثلاثة أيام من تصويت الأمم المتحدة على قرار ينص على شروط تدخل عسكري دولي في شمال مالي. في ذلك اليوم، الذي صادف الأحد 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي أقدمت الجماعة على هدم آخر الأضرحة في مدينة «الأولياء الصالحين الـ 333».

الجماعة ذاتها كانت هدمت، قبل ذلك، سبعة أضرحة من أصل ستة عشر في المدينة، وهدمت باب جامع سيدي يحيى. في حين تعرض قبر العلاّمة سيدي محمد بن عمّار، وهو أحد الأولياء الصوفيين الأكثر تبجيلاً لدى أهل تمبكتو، للهدم والحرق. وذريعة الجماعة في هذا الفعل، الذي قوبل بصدمة شعبية واسعة في مالي، أن هذه الأضرحة التي تضم رفات النساك والمتصوفة الزاهدين، هي أمكنة للشرك، وهنا تضع الجماعة الدينية نفسها مكان الشريعة، وهنا بالتحديد يكمن مأزق الجماعة ومثيلاتها ممن تزعم احتكار المعنى الديني، والنطق بلسان الله.

وغيرَ بعيد عن هدم الأضرحة الدينية بمعاول «أنصار الدين»، ما تستدعيه الذاكرة من هدم حكومة طالبان تمثالين ضخمين لبوذا حُفرا في الجبل يعودان إلى القرن الخامس الميلادي، ويعدّان من أهم روائع الفن الآسيوي. إن سطوة الفكرة هاهنا والرافلة في زعم المقدس، أشدُ تأثيراً من اعتبارات الحضارة والتراث الإنساني، وأيضاً من نداءات شخصيات دينية معتدلة تمثل مرجعاً في الإفتاء، وتمثل مؤسسات دينية ذات حضور ديني كثيف يحظى بإجماع.

ويستبطن سلوك هذه الجماعات الدينية التي توصف بـ «المتطرفة» نزعة تجد في التراث الإسلامي دلائل تسندها، بينها آية السيف: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»- (التوبة 9: 5)، رغم أن هذه من الآيات المنسوخة في القرآن، إلا أن الجماعات الدينية التي تستأثر بالصواب ما تزال تتخذ من تلك النصوص الدينية ذريعة لإيقاظ ما هجع في العقل الإنساني من عنف وتوحش.

هذه الجماعات تغض الطرف عن آيات قرآنية تحض على التسامح والصفح، وهي كثيرة من مثل ما ورد في سورة: «فأَعرِضْ عنهم وعِظْهُم» أو «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». وفي غضّ هذه الجماعات الطرف عن رؤية الحقيقة الدينية، في وسطيتها وتعايشها مع الحداثة والتمدن والمنجز الحضاري، رغبةٌ بإدخال الدين في الزمن الخوارجيّ، إذ يغدو الإسلام، وفق تلك الرغبة، حاثّاً على قتل المخالفين وتعقبهم وترصدهم، ومنصة لتفريغ الأحقاد الطبقية والعنصرية، وأداة للثورة على السائد، بما تضمره هذه الثورة من تصادم مع المعتقدات الشعبية الراسخة في الوجدان، ومن تدمير للمنجز الروحي، ومن اعتداء على الحرية الإنسانية بدعاوى الحرص على الفضيلة، وإلزام الإناث، سيدات كنّ أم فتيات قاصرات، على ارتداء ما تعتقد تلك الجماعات أنه الزي الشرعي. فهذا الإكراه الذي تمارسه الجماعة الدينية ينزع عنها الشرعية بالمعنى الفقهي والاجتماعي، فتغدو بلا رصيد أهلي، أو وجداني، وتصير شعاراتها ذريعة للتندّر حتى لو تلطت بأكثر العبارات الثورية الحماسية بريقاً وإغواءً، ففي اللحظة التي تختنق فيها الحرية، بمختلف وجوهها وتعبيراتها، لا يكون للشعار أي معنى حتى لو اكتسى أشد المعاني قداسة!

عن "الحياة" اللندنية

تابعو الأردن 24 على google news