مؤيد العتيلي
صمت هاتفك ولم أعد أسمع صوتك المجلجل.. لم أعد أسمع عبارتك الشهيرة: أين أنت يا رجل.. نعم تأخرت عليك.. اعذرني يا رفيقي.. لم احتمل، أكاد ألا أصدق أنك رحلت بعد مسيرة مليئة بالعطاء.. ذات يوم ومنذ أربعة عقود .. جاءني صديق عزيز، متلهف للتعبير عن مشاعره تجاه شاب مثقف.. مهذب.. دمث الأخلاق، مستدركا.. هل تعرفه.. اسمه مؤيد، قلت لا لم أتشرف بمعرفته بعد، رغم أنني متشوق لرؤيته فقد سبق وحدثني عنه أحد الأصدقاء، الا أن خصوصية العمل السري قد لا تسمح لي بذلك، فهو في القطاع الطلابي للحزب الشيوعي، وأعتقد أنه من طلاب الجامعة الأردنية .. صحيح ولكن لن أفوت عليك هذه الفرصة، سأتولى هذه المهمة اليوم، وسأفسد عليك انضباطك الحزبي.. ذهبت بمعية رفيقي المرحوم المناضل محمد الشقارين، كان ذلك في أوائل سبعينات القرن الماضي .. كانت تربطني علاقة حميمة بالشقارين، أمضينا أهم مرحلة في حياتنا بالنضال ضد الاحتلال الصهيوني تحت مظلة قوات الانصار .. حملت تلك الأيام ذكريات شخصية وانسانية ووطنية .. نتسامر ونتناول أطراف الحديث حول مختلف القضايا، بدءا من حياة الناس البسطاء في القرية والمدينة مرورا بالقضايا الثقافية والفكرية، وانتهاء بردود الافعال الساخنة لموافقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على مبادرة روجرز.. أو المشاركة في فك اشتباك بين مؤيد ومعارض من فصائل المقاومة في منطقة لا تبعد بضعة كيلومترات عن مواقع العدو الصهيوني.. وتحت قصف المدافع الاسرائيلية أحيانا. كان لقاءا حميميا رغم أنه الأول، توطدت العلاقات لاحقا مع صديق العمر ورفيقي مؤيد، عملنا سويا في خدمة الطبقة العاملة والحركة النقابية، وتناوبنا على رئاسة جلسات المؤتمر التأسيسي للحزب الديمقراطي الاشتراكي المنعقد في تشرين الثاني 1992، وأوكل لنا صياغة برنامج الحزب وواصلنا العمل في صفوف الحركة الوطنية من مختلف المواقع المتاحة. تولى مؤيد رئاسة تحرير جريدة الحزب " الفجر الجديد" وسامي الزبيدي وفهد الخيطان أعضاء في هيئة التحرير، عملت على ارساء مبادىء الحرية والديمقراطية، وهي من أولى التجارب في مجال التعددية السياسية في اطار الحزب الواحد. شاءت الأقدار أن يغادرنا سامي ومؤيد في أسبوع واحد وبالطريقة نفسها، خلال أسبوع اختطف الموت صديقين عزيزين. كان سامي يكتب تحت اسم الهندي الأحمر، وكان خياله خصبا.. متجاوزا الخطوط التي رسمها الحزبيون بعباراتها وديباجاتها ومنطوقها الثوري المركزي، كانت تجربة جديدة حملت اجتهادات أصاب بعضها واخطأ بعضها الآخر.
توطدت علاقاتنا الى أن أصبحت من أسمى العلاقات الانسانية والنضالية، ليس على الصعيد الشخصي فحسب، بل والعائلي ايضا، فقد أسهمت مصاهرة الشقارين لمؤيد، بتوطيد العلاقات وتعميقها فيما بيننا. اتقن مؤيد فنون النضال مستفيدا من كفاءته ومواهبه المتنوعة.. مؤيد الكاتب والشاعر والنقابي والسياسي وقبل كل ذلك الانسان، فقد انخرط في صفوف النضال مبكرا من خلال عضويته في اتحاد الطلبة وانتمائه للحزب الشيوعي، في أوائل سبعينات القرن الماضي، وكان له دور تعبوي مؤثر في صفوف الحركة النقابية من خلال نشاطه في نقابة المصارف، حين كان موظفا في القطاع المصرفي، وتبوأ موقعا قياديا في نقابة العاملين في المصارف والتأمين والمحاسبة، وأصبح رئيسا للنقابة. كان موضع احترام وتقدير، لكل من تعرف عليه، كان يتمتع بصفات مميزة. متواضع .. ودود .. شهم .. مرهف الاحساس ومتدفق الحماس دفاعا عن القضايا العادلة.. متميزا باسلوبة .. اللعنة صمت هاتفك .. ولم أعد أسمع صوتك.
لم يجلس مؤيد المثقف والشاعر والكاتب والروائي في برج عاجي.. لم تنحصر علاقاته بالنخب رغم ابداعه وعطاءه النوعي، فهو مع العمال عاملا ونقابيا، ومثقفا ثوريا، غادرنا مؤيد مبكرا وهو في ذروة عطاءه، كان نائبا لرئيس رابطة الكتاب الذي واكب نشاطاتها منذ تأسيسها. كان حراكيا ومناضلا مع ابناء شعبه من أجل الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، ومن أجل تحقيق اصلاح شامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، رافضا تحميل الشعب اعباء الازمة المالية والاقتصادية، كان مؤمنا حتى العظم بالدفاع عن قضايا الطبقة العاملة، والفقراء عامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كان مؤيد ملتصقا بقضايا شعبه وأمته، ناضل في صفوف الحركة الوطنية من أجل أردن وطني ديمقراطي،مؤمنا بحتمية الانتصار وتحرير الأرض والانسان، وطرد الغزاة الصهاينة، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وحق العودة. والتحرر من التخلف والتبعية، والنهوض بالامة تحت رايات الحرية والديمقراطية والوحدة. كان في وداع مؤيد جمهور واسع من مختلف ألوان الطيف السياسي. المجد والخلود لفقيدنا الغالي، وخالص العزاء لأسرتك واصدقائك.