الكمبرادور
تعكس الآراء والأفكار السياسية والفلسفية والثقافية والأدبية والجمالية، تناقضات المجتمع الطبقي في الدولة. منها ما يسعى للدفاع عن المستغلين، وابقاء القديم على قدمه، ومنها ما يسعى الى إحداث التغيير والتجديد. والدفاع عن المضطهدين والمقهورين. فالعلاقة جدلية بين البناء التحتي والبناء الفوقي، فالقوانين والأنظمة في الدولة الرأسمالية تخدم مصالح الطبقة السائدة في المجتمع، التي تسعى لتسخير وتجنيد المؤسسات الإعلامية والثقافية للدفاع عن مصالحها، ويجرى توريط بعض رجال الدين بهذه المهمة، وفي العصور الوسطى استخدمت الكنيسة دفاعا عن سلطة الاقطاع. فالبناء الفوقي كما هو معروف نتاج للبناء التحتي، "البنى الاقتصادية". وكما تولد الطبقة الجديدة في احشاء التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية القديمة، تولد الأفكار والآراء التي تتبنى مصالح المستضعفين في الدولة.
عبر مؤيد العتيلي بأسلوب المثقف التقدمي، واحساس الأديب المبدع، الغيور على تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية، بروايته الشهيرة " الكمبرادور" التي صدرت في عام 1992عن الأخطار الحقيقية للنهج الذي هيمن على البلاد منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، بما يسمى بـ " سياسة التصحيح الاقتصادي "، وبالحرية المطلقة لـ " رأس المال "، بهدف تحقيق الربح، غير آبهين بمصير الاقتصاد الوطني، أو بالانسان الأردني، فأُطلق العنان لتحرير أسواق المال والتجارة، وازالة الحواجز كافة أمام انسياب السلع الأجنبية، ليتمتع هشام عبد الودود أحد رموز وكلاء الشركات الأجنبية في روايته " الكمبرادور" بجمع الأموال بلا حدود وبلا رادع، وبشرب أنخاب الدولار،على حساب فقر المسحوقين والمهمشين المدقع، والارتهان لاملاءات صندوق النقد الدولي. تنبه مؤيد مبكرا لمخاطر هيمنة الطفيليين وتكريس التبعية الاقتصادية لصالح الاحتكارات الأجنبية. وما تعيشه البلاد في هذه المرحلة من أزمة مالية واقتصادية واجتماعية الا نتاج هذه السياسات.
جسدت شخصية عبد الرحمن في الرواية آلاف المواطنين الذين عانوا الحرمان من العمل، لا لشيء فقط سوى أنهم ملتزمون بالقضايا الوطنية من خلال عضويتهم في أحزاب سياسية ، فكان على هؤلاء، الحصول على عدم الممانعة من الدوائر الأمنية، ليسمح لهم بالعمل، ليس في الدوائر والمؤسسات الحكومية فحسب، بل وفي بعض مؤسسات القطاع الخاص. عَكَس المثقف التقدمي معاناة الأردنيين في فترة الأحكام العرفية التي ما زالت سارية المفعول في بعض الدوائر الرسمية، رغم الحديث عما يسمى بالحكومة البرلمانية، ومهزلة مشاورات الأحزاب والنواب بتشكيل الحكومة.
عمل مؤيد في قطاع المصارف، وسرعان ما أصبح ممثلا لزملائه في النقابة، وقائدا نقابيا، فأنتُخب رئيسا للنقابة العامة للعاملين في المصارف، كان مدافعا عن قضايا الطبقة العاملة، متصديا للسعي المتواصل للسلطة بتحميل العمال والكادحين والمهمشين أعباء السياسات المالية والاقتصادية، ومدافعا عن حرية الحركة النقابية واستقلاليتها التي ما زالت أسيرة الأحكام العرفية.
لم يجلس مؤيد المثقف والشاعر والكاتب والروائي في برج عاجي.. لم تنحصر علاقاته بالنخب رغم ابداعه وعطائه النوعي، فهو مع العمال عاملا ونقابيا، ومع المثقفين مثقفا ثوريا، كان نائبا لرئيس رابطة الكتاب الذي واكب نشاطاتها منذ تأسيسها. كان حراكيا ومناضلا مع أبناء شعبه من أجل الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، ومن أجل تحقيق اصلاح شامل سياسي واقتصادي واجتماعي، رافضا تحميل الشعب أعباء الأزمة المالية والاقتصادية، كان مؤمنا حتى العظم بالدفاع عن قضايا الطبقة العاملة، والفقراء عامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
مؤيد الشاعر والروائي والكاتب، مؤيد النقابي والمناضل السياسي، المنحاز للكادحين والفقراء والمضطهدين والمقهورين، الذي كرس حياته من أجل العدالة الاجتماعية، كان من دعاة الابداع والتجديد. فكان من بين أبرز المؤسسين للحزب الديمقراطي الاشتراكي في نهاية عام 92 وتولى رئاسة تحرير جريدة الحزب "الفجر الجديد"، التي عملت على ارساء مبادئ الحرية والديمقراطية، وهي من أولى التجارب في مجال التعددية السياسية في اطار الحزب الواحد. لم يأل جهدا من أجل الوصول الى صيغة مناسبة لتوحيد المضطهدين والمقهورين والمدافعين عن مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. نم قرير العين يا رفيقي.. فالمبادرة النبيلة التي سترى النور قريبا بتوحيد الشيوعيين من أجل بناء حركة شعبية للدفاع عن المضطهدين والمهمشين ما هي الا استمرار لما كنت تسعى لتحقيقه. سنبقى على العهد يا مؤيد .. نواصل النضال من أجل بناء الدولة الديمقراطية ، دولة المؤسسات، دولة العدالة الاجتماعية، مؤمنين بحتمية الانتصار. غادرتنا مبكرا وأنت في ذروة عطائك، ونحن بأمس الحاجة الى أمثالك من المثقفين والمناضلين الغيورين على مستقبل البلاد .. المجد والخلود لك يا مؤيد.. وأحر العزاء لزوجتك وكريماتك وأسرتك عامة ولرفاقك وأصدقائك كافة.
(العرب اليوم)