2024-05-22 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

الاقتصاد ومجتمع اللايقين

د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :



أسوأ حالة قد يمر بها البشر، جماعة أو أفرادا، هي حالة اللايقين (uncertainty)، وحالة انعدام الوزن. وعادة ما تتكاثف هذه الحالة وتتراقى، نتيجة لثلاثة عوامل متعاضدة: عوامل داخلية وعوامل إقليمية وعوامل عالمية. ونتيجة لها يمر المجتمع بحالة مريبة من الترقب والحيرة ثم اليأس والعنف. وأظن بأن الأردن يمر في أصعب وأحلك الظروف التي قد يمر بها أي مجتمع أو نظام رسمي.

على الصعيد العالمي، فقد الأردن قوة ودعم التحالفات التي عقدها في ما مضى مع الدول القوية، وبخاصة دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة. فهذه القوى تعمدت وتتعمد دفع المنطقة العربية إلى حالة من انعدام الوزن، بحيث لا يكون لأي دولة منها تأثير في ما يجري. بل تعمد إلى تخريبها وتأجيج الصراعات الداخلية فيها. وخير مثال على ذلك ما يجري في ليبيا وسوريا والعراق واليمن. فالقوى ذاتها تأخذ أدواراً متناقضة من أجل إدامة الصراع واستدامة التفتيت. وهو ذات المخطط الذي أشرف عليه هنري كامبل بانيرمان، رئيس وزراء بريطانيا، خلال السنوات الأربع الأولى من بداية القرن العشرين الماضي. وقد بينت تصريحات ترمب حول ضرب مصافي النفط في السعودية، بطائرات مُسيرة، من خارج السعودية، مدى الابتزاز الذي تمارسه الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وعدم اكتراثها باستقرار المنطقة العربية ونموها الاقتصادي. ولأن جُل أهتمام الغرب وروسيا معه يتركز حول الثروة وتقاسم النفوذ. وبالتالي لا يهتم هؤلاء بالبشر أو بالحكام. وهو ضرب من الابتزاز الذي مارسته وتمارسه الدول ذاتها في ليبيا وسوريا والعراق.

على الصعيد الإقليمي، تسطع الصورة القاتمة بشكل سافر، لكنها تسطع سواداً وكآبة. ولا تعرف أي من الدول المعنية ما يحصل لها، وما فيها وما حولها. وقد تفككت عراها الداخلية والبينية. وشواهدي على ذلك كثيرة.

أما على الصعيد المحلي، وهي الحالة الأخطر، فإن حالة اللايقين وانحطاط المعنويات، سائدة بشكل لافت، حتى لدى الطفل والأعمى والجاهل.

قمت خلال الأشهر الخمسة الماضية بتدوين سلوك آلاف الأشخاص، من طلبة مدارس وجامعات، وموظفين، من طبقات متعددة، ومتقاعدين، ورؤساء وزارات سابقين، ووزراء عاملين ومتقاعدين، وأغنياء وفقراء. وكنت أوجه أسئلة مباشرة وغير مباشرة حول الوضع السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي يلف البلاد. فكانت الأجوبة متقاربة إلى حدٍ لافت، وكانت أكثر الكلمات تكراراً: لا أعرف، أنداري، ليس لها من دون الله كاشفة، ضنك، مش عارف، لا يهمني ما يجري، لست مبالٍ لما يحدث، الله يستر من القادم، البلد خربانة...

تدل هذه الكلمات والمصطلحات الشائعة على حجم اللايقين الذي يستبد بعقول ونفسيات البشر. وفي خضم هذه الحالة المرضية، التي لا ينجو منها أحد، من تبعاتها ومآلاتها، سواء في القمة أو القاعدة، تتعطل الحياة إلا من التحرك الأحيائي (البيولوجي): أكَلَ، شرِبَ، نامَ.

هذه الحالة تدفع المستثمر للتأني والتفكير بما هو قادم، وهو عاجز عن تلمس المستقبل، بما يتوافر من معلومات شحيحة. وتغدو المعلومة اليقينية غالية الثمن، وخاصة ما يتعلق منها بمستقبل الاقتصاد والدولة والمجتمع. أما المستهلك فيحصر إنفاقه بما هو ضروري لحياته، لأنه لا يعرف تبعات نضوب موارده المالية في ظل ظروف البطالة واسعة النطاق، واللايقين حول مستقبل الاقتصاد والمجتمع، والدولة برمتها. ويغدو اتخاذ القرار في أي مجال صعباً أو مستحيلاً، لأن عواقب القرار غير مضمونة النتائج باحتمالٍ عالٍ.

يقول علماء النفس الاجتماعي بأن حالة الحيرة واللايقين تدفع البشر، بشكل عام، إلى اجتهادات خاطئة وخيمة العواقب، وإلى عنف تدريجي، وتفكك اجتماعي، ثم يأس حقيقي يهدد وجود البشر ككتلة بشرية متماسكة. وخلال مسيرة المجتمع نحو النهاية الحتمية يمر بسلسلة من التطورات غير الإيجابية، وكثرة الشكاوى والإضرابات، والغلاء، والاستبداد، وغياب حكم القانون، وانعدام المؤسسية.

أرى، من وجهة نظري العلمية، بأن الدولة الأردنية تشهد في الوقت الراهن إرهاصاتٍ تؤسس للوصول إلى حتمية نهايتها السياسية والاجتماعية. والمحير بالأمر أن الحكومة بسلطاتها الثلاث، تشارك بقصد وغير قصد، وفي بعض الحالات بشكل منظم، للوصول بالبلاد إلى هذه الحالة.

السفينة التائهة لا يهمها اتجاه الرياح، ما يعني بالتالي أن الأمواج تقذفها نحو اتجاهات متضادة، وأن الربان وركاب السفينة وقفوا متفرجين خائفين حائرين حول وجهة السفينة، وسيقفوا متفرجين إلى أن ترتطم وتغرق ... وهي الحالة التي أرجو الله تعالى أن لا تصل إليها إلا سفن العدو وكل من يشارك في التيه الذي أراه...
 
تابعو الأردن 24 على google news