الشعب يسترد ثورته
وقف العالم مبهورا أمام الجماهير الشعبية المتدفقة في الساحات والميادين، في المدن والقرى المصرية، ملايين المصريين يجوبون الشوارع بمسيرات شعبية لتصويب مسار الثورة المصرية ملبين الدعوة لإسقاط مرسي، واجراء انتخابات مبكرة، حضور جماهيري غير مسبوق، لم تشهده دولة في العالم، دفاعا عن مبادئ ثورة 25 يناير، " الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية " كان واضحا منذ اللحظات الأولى لاندلاع ثورة يناير أن القوى المحركة للثورة المصرية الشباب والعمال، الذين يعانون من الفقر والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية، بسبب السياسات الاقتصادية التي فرضها نظام الفساد والاستبداد، منذ عدة عقود، وكان واضحا أن القضية الاقتصادية والاجتماعية تحتل المقام الأول، وأن مصر الثورة تحتاج إلى سياسة اقتصادية جديدة، فالسياسة الاقتصادية التي سادت منذ عصر الانفتاح الاقتصادي التي أفقرت الشعب المصري انتهى عصرها، وكان على النظام أن يعي حقيقة هذه القضية الجوهرية، الا أن مصالحه الطبقية حالت دون ذلك.
إن التركة الثقيلة التي خلفها نظام مبارك، كانت تستدعي حكومة ائتلاف وطني من كفاءات اقتصادية تتمتع برؤية اقتصادية وطنية تضع في صلب اهتمامها مشروعا تنمويا اقتصاديا اجتماعيا، والاقلاع عن سياسة اقتصاد السوق المنفلت، واصدار حزمة من القوانين الاقتصادية والاجتماعية التي تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية، بدلا من سياسة التفرد والاقصاء وأخونة مؤسسات الدولة.
لم تحرك الحكومة المصرية ساكنا خلال عام مضى تجاه القضايا الجوهرية التي تواجه المجتمع المصري من قضايا الفقر والبطالة والتهميش، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهي أهداف الثورة المصرية، بل على العكس من ذلك نجحت في استقطاب عداء مختلف الفئات الاجتماعية، ووحدتها في جبهة عريضة "جبهة الانقاذ" من اجل الدولة المدنية، وحركة الشباب " تمرد" من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بسب سوء ادارة مرسي التي اتسمت بالتخبط وتقديم المصالح الحزبية على المصالح الوطنية العليا، برز ذلك جليا في أخونة المؤسسات والتفرد في السلطة، بدلا من تشكيل حكومة كفاءات اقتصادية، تستعين بكافة القوى السياسة التي شاركت في الثورة لتتحمل مسؤولياتها في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر، علما أن من حقها المشاركة في السلطة، فهي التي أوصلت مرسي الى الرئاسة، وكان يفترض توقيع وثيقة تحالفية بين التيار الاسلامي والتيار الديمقراطي التقدمي، تتضمن المبادئ الأساسية خلال المرحلة الانتقالية، والمشاركة في الحكم مقابل الاصوات التي أسهمت بفوزه. إن هذه الأسباب مجتمعة وفي جوهرها تمسك حكومة مرسي بنهج الليبرالية الجديدة اقتصاديا والخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، أفقدت الإخوان المسلمين رصيدا شعبيا واسعا ووضعتهم وجها لوجه أمام ثورة الجياع.
لقد كان مستوى الأداء الاقتصادي متدنيا جدا خلال عام من حكم مرسي، فقد ارتفعت معدلات البطالة من 12.5 % الى 13.5 %، وارتفعت مديونية مصر الخارجية من 34.4 مليار دولار إلى 45.4 مليار دولار، وفاوضت حكومة مرسي صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار لترتفع المديونية الخارجية إلى أكثر من 15 مليار دولار بعد اتمام الاجراءات مع الصندوق، وترتفع المديونية الخارجية الى أكثر من 40 % خلال عام واحد. أما المديونية المحلية فقد ارتفعت من 1238 مليار جنيه مصري الى 1520 مليار جنيه منذ انتخابات الرئاسة، وتضمنت الموازنة العامة للسنة الثانية اقتراضا بقيمة 312 مليار جنيه، وبذلك ترتفع المديونية المحلية 48 % مقارنة مع ديون مصر خلال 30 عاما من حكم مبارك. وقد استنزف احتياط البنك المركزي وتراجعت الاحتياطات من 36 مليار دولار إلى 22 مليار دولار خلال عام. واستجابت الحكومة المصرية "لنصائح" وشروط الصندوق بتعويم سعر الجنيه المصري، الذي أدى إلى انخفاضه بحوالي 30 %. لا شك أنها أسباب كافية لنزول ملايين المصريين إلى الشوارع في 30 حزيران الماضي.
عادت مصر مرة أخرى الى المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة دقيقة بالغة الأهمية، مستفيدة من تجربتها الأخيرة رغم مرارتها، إلا انها تحمل تجربة غنية ليس لمصر وحدها بل للشعوب العربية كافة التي تناضل من أجل الحرية والديمقراطية، وفك التبعية، بتحديد طبيعة المرحلة، وطرح البرنامج الوطني الذي يلبي طموحات الجماهير الشعبية، من أهم الدروس والعبر التي تمخضت عنها التجربة المصرية، وأهم من كل ذلك وعي الجماهير المصرية، وحسهم المرهف تجاه مصالحهم الاجتماعية، هذا الوعي الذي شكل البوصلة لتحديد مسار الثورة، وترجم المبدأ الدستوري الديمقراطي"الشعب مصدر السلطات ". تحية اجلال واكبار لهذا الشعب العظيم، الذي يستمد طاقاته النضالية من تاريخه المجيد.
(العرب اليوم)