ديترويت ... نموذج فشل
منذ نشوء علاقات الانتاج الرأسمالي في التاريخ البشري ومفهوم الدورة الاقتصادية ملازم للإنتاج الرأسمالي، فقد شهدت المجتمعات البشرية عشرات المراحل من الازمات الاقتصادية. والازمة الاقتصادية هي احدى مراحل الدورة الاقتصادية التي يتبعها الركود والانتعاش والصعود، ومن ثم الدخول في أزمة جديدة. فالأزمة الاقتصادية ملازمة لاسلوب الإنتاج الرأسمالي، اما عمق واتساع الازمة في كل دورة، فأن ذلك يعتمد على مجموعة من العوامل الاقتصادية. وكان من اشهر الازمات الاقتصادية ما عرف بالكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي.
ما يميز الازمة الحالية التي انفجرت في سبتمبر عام 2008، انها جاءت ضمن معطيات جديدة شهدها العالم اهمها: مرحلة "الركود التضخمي" الناجمة عن ارتفاع اسعار المواد الاولية والمشتقات النفطية. فتراجع اسعار المشتقات النفطية لم يدم طويلا بعد انفجار الازمة، الامر الذي عرقل ظهور مرحلة الانتعاش الاقتصادي، فقد سارعت الشركات الاحتكارية في قطاع النفط برفع اسعارها عن طريق التحكم بالانتاج والاسعار (عادة تتعرض الاسعار للانهيار بعد الازمة بسبب تراجع الطلب) لتحقق الاحتكارات الرأسمالية ارباحا اعلى، في ظل تقليص انتاجها. مما ادى الى ارتفاع اسعار السلع والخدمات كافة. اما العامل الاخر بروز عنصر جديد في العلاقات الدولية، تمثل باختراق عدد من الدول النامية جدار النظام الرأسمالي بفضل ثورة المعلومات والعولمة الراسمالية التي شرعت الابواب امام رياح التغيير، ومهدت لنجاح عدد محدود من البلدان النامية في اقامة علاقات متكافئة مع الدول الصناعية المتقدمة مثل الصين والبرازيل والهند..الخ. وشكلت تحديا للمراكز الراسمالية. اضعفت قدرتها على التكيف مع الازمة ضمن زمن قياسي والانتقال من الركود الى الانتعاش. علما ان العلاقات غير المتكافئة مع معظم الدول النامية والمراكز الرأسمالية وخضوعها للتبعية السياسية والاقتصادية، اسهم بشكل مباشر بنهب خيرات الامم وحرمان البلدان النامية من النهوض باقتصاداتها، وصولا لتنمية اقتصادية واجتماعية .
لم تفلح سياسة ضخ الاموال الممولة بالقروض، والسياسات التقشفية وفرض الضرائب على العمال والفقراء والمهمشين، التي اتبعتها الادارة الامريكية لانقاذ شركات متداعية ايلة للسقوط. فقد افلست ديترويت مركز صناعة السيارات الاميركية "جنرال موتورز، كرايسلر، فورد وشركات أخرى لتصنيع أجزاء وقطع السيارات"، فقدت هذه الصناعات قدرتها التنافسية امام احتدام الصراع بين الاحتكارات الراسمالية. وتعاني المدينة من مديونية تصل الى حوالي 19 مليار دولار، وقد فشلت ادارة المدينة في ترميم البنية التحتية المتداعية، وتشير التقارير ان المظهر العام للمدينة يوحي بانها مدينة مهجورة بسبب تراجع الخدمات العامة، ففي المدينة 78 ألف مبنى متداع وثلث سيارات الإسعاف معطلة، وجهاز الشرطة مترهل لا يستجيب لنداءات المواطنين، الا بعد فوات الاوان، والبلدية لم تعد قادرة على إنارة الشوارع. بسبب تراجع الايرادات وسوء الادارة.
واثار افلاس مدينة ديترويت جدلا واسعا في اميركا التي كانت عنوانا لصناعة السيارات، فقد تلقت غرفة تجارة المدينة نبأ اشهار الافلاس بالترحيب، و وصفته بالقرار الشجاع، غير ابهة بمصير العمال واسرهم الذين فقدوا عملهم وانضموا الى جيش العاطلين عن العمل. بينما أثارت خطة عمدة المدينة "أور" باعلان الافلاس، استياء ادارة صناديق التقاعد حيث بلغت قيمة ديون الصندوق تسع مليارات دولار على المدينة، فباشرت باجراءات قضائية لمنع أي اقتطاع من معاشات التقاعد، غير أن هذا المسعى علق بسبب إشهار الإفلاس.
يجوز للطغمة المالية والاحتكارات الرأسمالية ما لا يجوز للاخرين، فهم يملكون الدولة ومؤسساتها وقوانينها، والدولة بالنسبة لهم شركة تخضع للقانون الاساسي للنظام الراسمالي "الربح والخسارة" وطالما تحقق الربح الوفير تواصل نشاطها الاقتصادي، اما في حال تعرضها للخسارة، بسبب منافسة شديدة تنقل نشاطها... فبعد استيلاء صناعة السيارات اليابانية على معظم اسواق العالم اتجهت عمالقة احتكارات صناعة السيارات الاميركية نحو اعلان افلاسها ونقل رؤوس اموالها الى مكان اخر تتوفر فيه فرص استثمار افضل لاموالها مستفيدة من عمالة رخيصة وتكنولوجيا تجارية قابلة للمنافسة، وتتحمل الطبقة العاملة عبء تداعيات قرارها. باعتبار المواطنين في الدولة رعاعا، لا يحق لهم الاعتراض، ويأتي قرار إشهار الإفلاس بهدف الحماية من الدائنين والنقابات العمالية لحرمان العمال من اية حقوق، وقد طالب عمدة المدينة "أور" بتخفيض الإنفاق من 11.5 مليار دولار إلى مليارين فقط بما يعني أن المتقاعدين لن يحصلوا سوى على نحو 17 بالمائة من مستحقاتهم . في مدينة يعاني ثلث سكانها من الفقر، و خمسهم من البطالة، وهجر المدينة نحو ربع مليون من سكانها .
يعتبر إفلاس ديترويت احدى تداعيات الازمة المالية والاقتصادية العالمية، فمن المعروف ان قطاع صناعة السيارات من بين اهم القطاعات التي تعرضت للانهيار، ويقول خبراء إنّ الأزمة تضع على المحك أصولا بنحو ألف مليار دولار مرجحين أن تتاثر ولايات أخرى في اميركا. وسقوط ديترويت المريع يعكس حجم الفساد المستشري في المدينة، فقد استقال عمدة المدينة السابق كوامي كيلباتريك في عام 2008 على خلفية قضايا الفساد، وهو يقبع الان في السجن بتهم جنائية منها الابتزاز والرشوة والضلوع في الجريمة المنظمة.
(الرؤية العمانية )