jo24_banner
jo24_banner

كيف حُرم الأردن من حقوقه المائية في حوض نهر الأردن ؟

فهمي الكتوت
جو 24 :



لم تكن قضية المياه في الأردن مسألة فنية أو تنموية محضة، بل شكّلت منذ بدايات تشكل الكيان الصهيوني ساحة صراع سياسي واستعماري مكثف، وبالدور الأميركي المتنامي في إدارة موارد المنطقة. وقد تبلور هذا الصراع بوضوح في ملف مياه حوض نهر الأردن، حيث جرى تعطيل حقوق الأردن المائية بصورة ممنهجة، عبر إسقاط المشاريع التي تحفظ السيادة العربية، وفرض بدائل تخدم التوسع الصهيوني واحتياجاته الاستيطانية وفق المسلسل التالي.

اولاً: مشروع ماكدونالد 1951 – مقاربة تنموية أُجهضت سياسيًا
في عام 1951 كلفت الحكومة الأردنية شركة ماكدونالد البريطانية بإعداد دراسة لتطوير حصة الأردن من مياه وادي الأردن. انطلقت الدراسة من مبدأ قانوني–أخلاقي واضح، تبناه العرب لاحقًا كموقف موحد، مفاده أن مياه أي حوض مائي يجب أن تُستثمر أولًا لتلبية حاجات سكانه قبل نقلها إلى خارجه. وقد مثّل هذا المبدأ تهديدًا مباشرًا للمشروع الصهيوني، الذي كان يقوم في جوهره على تحويل مياه نهر الأردن خارج حوضه الطبيعي باتجاه صحراء النقب.
خلصت الدراسة إلى أن المنطقة الممتدة من بحيرة طبريا حتى شمال البحر الميت تمثل المجال القابل للري، وقدرت حصة الأردن بـ1087 مليون متر مكعب سنويًا، تكفي لري نحو 555 ألف دونم، معظمها في الغور الشرقي. غير أن «إسرائيل» رفضت المشروع رفضًا قاطعًا، لأنه يقوض خطتها الاستراتيجية القائمة على السيطرة على المياه وتحويلها لخدمة الاستيطان، ما أدى عمليًا إلى تعطيل المشروع رغم طابعه التنموي الواضح.

ثانياً: خطة بنجر 1952 – محاولة عربية لكسر السيطرة الصهيونية
مثّلت خطة المهندس الأميركي بنجر تحولًا نوعيًا في التفكير المائي العربي، إذ اقترحت لأول مرة تخزين مياه نهر اليرموك داخل الأراضي العربية، بعيدًا عن بحيرة طبريا الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. اعتمدت الخطة على بناء سد المقارن بسعة تخزينية تبلغ 500 مليون متر مكعب، وربط ذلك بمنظومة ري متكاملة في وادي الأردن، بما يحقق التنمية الزراعية وتوليد الطاقة الكهربائية.
وافقت كل من الأردن وسوريا على الخطة، ووفرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين تمويلًا أوليًا كبيرًا، ما عكس إمكانية حقيقية لتنفيذ المشروع. غير أن التدخل الأميركي، استجابةً للرفض الإسرائيلي، أدى إلى إسقاط الخطة بصورة مفاجئة، وارغمت وكالة الغوث على سحب التمويل، في دلالة واضحة على حدود «الاستقلال التنموي» العربي في ظل الهيمنة الأميركية. ويكتسب إقصاء بنجر من الحياة المهنية بعد ذلك دلالة سياسية تتجاوز البعد الشخصي، وتشير إلى طبيعة الصراع حول المياه بوصفه صراعًا استراتيجيًا لا يُسمح فيه بالحياد.

ثالثاً: مشروع جونستون – من إدارة المياه إلى إدارة الصراع
في أعقاب فشل المشاريع غير المنحازة، تدخلت الولايات المتحدة مباشرة عبر بعثة إريك جونستون (1953–1955)، في محاولة لإعادة صياغة قضية المياه ضمن إطار «تقني» يخفي جوهرها السياسي. وقد كُلّفت سلطة وادي تنيسي بإعداد مقترحات لتقسيم مياه نهر الأردن، إلا أن هذه المقترحات جاءت منحازة بوضوح لصالح «إسرائيل»، سواء من حيث الكميات المخصصة لها، أو من حيث تكريس مبدأ تخزين المياه في بحيرة طبريا.
وقد أسفرت المفاوضات عن وجود رأيين متباينين، يمكن تلخيصهما كما يلي:

حصص المياه السنوية المقترحة (مليون متر مكعب)

المشروع

الاردن

لبنان

سوريا

"اسرائيل"

الخطة العربية

911

35

132

270

مشروع سلطة وادي تنيسي (جونستون)

774

0

45

394


رفض الجانب العربي هذه الطروحات، وأصر على تخزين مياه اليرموك داخل مجراه الطبيعي، وعلى ضمان حصة عادلة للأردن لا تقل عن 911 مليون متر مكعب سنويًا. في المقابل، سعى مشروع جونستون إلى تقليص حصة الأردن وحرمان لبنان عمليًا من أي نصيب، مقابل زيادة حصة «إسرائيل» بما يخدم مشاريعها التوسعية.

رابعاً: الفشل السياسي للمشروع الأميركي–الصهيوني
على الرغم من الضغوط المكثفة التي مورست بين عامي 1953 و1955، فشل مشروع جونستون نتيجة الرفض العربي الجماعي، ولا سيما اعتراض الخبراء العرب على تخزين المياه في منشأة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وقد عبّر الموقف الأردني الرسمي عن هذا الرفض بوضوح، كما ورد في رسالة وزير الخارجية حسين فخري الخالدي، التي أكدت قرار جامعة الدول العربية القاضي برفض أي مشروع مشترك مع «إسرائيل» لاستثمار مياه نهر الأردن.
غير أن فشل المشروع سياسيًا لم يمنع «إسرائيل» لاحقًا من فرض أمر واقع بالقوة، عبر السيطرة العسكرية والتقنية على منابع المياه، مستفيدة من الدعم الأميركي غير المشروط، ومن اختلال موازين القوى في المنطقة.

خامساً: دلالات استراتيجية معاصرة
غير أنّ فشل المشروع سياسيًا لم يُنهِ الأطماع الصهيونية، إذ سرعان ما لجأت «إسرائيل» إلى فرض أمرٍ واقعٍ استعماري بالقوة، عبر إحكام سيطرتها العسكرية والتقنية على منابع المياه العربية، مستندةً إلى الدعم الأميركي غير المشروط، وإلى اختلالٍ بنيوي في موازين القوى في المنطقة. وقد شكّلت الاتفاقيات الموقَّعة لاحقًا غطاءً سياسيًا وقانونيًا لهذا النهب المنظَّم، حيث أتاحت للعدو الاستمرار في ضخّ نحو 10 ملايين متر مكعّب سنويًا من آبارٍ حفرها قرب موقع الغمر أثناء احتلاله جزءًا من وادي عربة عام 1968، في تجسيدٍ صارخ لسياسة فرض الوقائع بالقوة ومصادرة الموارد السيادية على حساب الحقوق العربية.
إن استعادة هذا التاريخ ليست استدعاءً للماضي، بل موقفًا سياسيًا ضروريًا لتعرية حجم الإجحاف الذي لحق بحقوق الأردن المائية، والذي بلغ ذروته في اتفاقية وادي عربة، ومن دون هذه القراءة النقدية، لا يمكن فهم جذور الأزمة المائية الراهنة، ولا الشروع في مراجعة جادة للخيارات السياسية والاقتصادية التي قادت إلى الارتهان لمشاريع خارجية، بدل تبني سياسات وطنية وسيادية تستند إلى الحق التاريخي، وإلى إدارة مستقلة للموارد، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من معركة التحرر الوطني والاقتصادي.
 

* الكاتب أمين عام الحزب الشيوعي الأردني

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير