تتوارى الثقة فيخسر الاقتصاد
حسن الشوبكي
جو 24 : استوقفني، قبل بضعة أسابيع، مشهد يدعو إلى الحيرة والتأمل في شكل ومضمون النخبة التي تتحكم بمصير الشعب.
المكان هو الساحة الخلفية لمجلس الأمة، حيث أبصرت عشرات سيارات الدفع الرباعي الفارهة، وجلها صنعت في العام 2014، وتعود لنواب وأعيان ووزراء. ما يثير السؤال عن جوهر النخبة التي تشرع وتراقب بشأن أحوالنا الاقتصادية، ناهيك عن السياسية والاجتماعية والتعليمية.
غادرت "بيت الشعب" وأنا افكر بالصور التي حفرت في ذاكرتي خلال 20 عاما من عمل صحفي غرق في التفاصيل؛ تارة تبدى في الخيال لقطة الأطفال الشهيرة في إحدى القرى النائية بالمفرق "يتقاتلون" من أجل الحصول على لقمة تسد جوعهم، فيما أمهم الأرملة ترقب الفقر الذي يفتك بأبنائها، وليكبر الخيال أكثر فيقف أمام ضنك العيش الذي لحق بالمعلمين وأطباء وأصحاب مهن كانت يوما تنضوي ضمن طبقة وسطى فقدنا منها الكثير.
حديث المساواة أمسى ترفا، يتم استخدامه بكثرة في محاضرات مسؤولين سابقين، في الوقت الذي يقع فيه ما يزيد على نصف السكان ضمن شرائح الفقر المتناثرة في أكثر من 30 بؤرة فقر، تنتشر في شمال البلاد وشرقها وجنوبها، بينما 44 % من العاملين في المملكة رواتبهم دون 300 دينار شهريا.
ثمة ما يدفع إلى استفزاز الشارع بكل تلاوينه، وهو الذي احتج بأشكال عديدة خلال السنوات الماضية ضد سياسات الإفقار والتهميش والتجويع والفساد. فمجلس الأمة، وبأغلبية ساحقة، يمنح النواب والأعيان رواتب تقاعدية مدى الحياة. ولن يجد الفقراء بواكي لهم، فمن أعد لنفسه ولعائلته راتبا تقاعديا وامتيازات عدة، سيذهب بعيدا عن أنين الفقراء ومشاكل الدولة الاقتصادية، بل سيتوافق حتما مع سياسة الحكومة.
للتذكير، يندرج الأردن في قائمة الدول الأكثر فقرا في موارد المياه، كما تشكل الطاقة التي يتم استيرادها من الخارج، عاملا ضاغطا على موازنة الدولة، ولدينا مديونية ثقيلة تقارب 30 مليار دولار. وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن ضبط الإنفاق الجاري، واتخاذ سياسات "رشيدة" لضمان عبورنا الاقتصادي بسلام، يتم منح النواب والأعيان رواتب تقاعدية مدى الحياة أسوة بالوزراء. وهو ما يجعل الحديث عن الأولويات والحكم الرشيد مجرد كلام مطبوع على أوراق لا يعنيها أحد، ولا تجد طريقا إلى التنفيذ لغياب الإرادة.
أسوأ التشوهات التي يمكن أن تلحق بأي اقتصاد، لا تعدو أن تكون فقدان الثقة في العلاقة بين النخب والشعب. وأظنها مفقودة لدينا، وفقا لاختلاف الأولويات وتشابك المصالح التي تتفوق فيها مصلحة النائب والعين والوزير على مصلحة المواطن الفقير في الأطراف. وليس مطلوبا والحالة هذه أن يقدم مجلس النواب أفكارا خلاقة لإنقاذ الدولة والشعب من براثن المديونية والفساد والفقر.
عادت بي الذاكرة سريعا إلى ربع قرن مضى، واستذكرت مشهدا لا يمكن نسيانه لنائب يقف إلى جانب الشارع الرئيس في الهاشمي الشمالي، وقد تعطلت سيارته المتواضعة، بسبب ارتفاع حرارة المحرك. وقد رفض النائب آنذاك مساعدة الآخرين، بعد أن شكرهم بأدب جم، وأصلح السيارة بنفسه ومضى. يومها كان بيننا نواب حقيقيون، وعلاقة راسخة تربطهم بقواعدهم الشعبية بعيدا عن المال والتعالي.
الغد
المكان هو الساحة الخلفية لمجلس الأمة، حيث أبصرت عشرات سيارات الدفع الرباعي الفارهة، وجلها صنعت في العام 2014، وتعود لنواب وأعيان ووزراء. ما يثير السؤال عن جوهر النخبة التي تشرع وتراقب بشأن أحوالنا الاقتصادية، ناهيك عن السياسية والاجتماعية والتعليمية.
غادرت "بيت الشعب" وأنا افكر بالصور التي حفرت في ذاكرتي خلال 20 عاما من عمل صحفي غرق في التفاصيل؛ تارة تبدى في الخيال لقطة الأطفال الشهيرة في إحدى القرى النائية بالمفرق "يتقاتلون" من أجل الحصول على لقمة تسد جوعهم، فيما أمهم الأرملة ترقب الفقر الذي يفتك بأبنائها، وليكبر الخيال أكثر فيقف أمام ضنك العيش الذي لحق بالمعلمين وأطباء وأصحاب مهن كانت يوما تنضوي ضمن طبقة وسطى فقدنا منها الكثير.
حديث المساواة أمسى ترفا، يتم استخدامه بكثرة في محاضرات مسؤولين سابقين، في الوقت الذي يقع فيه ما يزيد على نصف السكان ضمن شرائح الفقر المتناثرة في أكثر من 30 بؤرة فقر، تنتشر في شمال البلاد وشرقها وجنوبها، بينما 44 % من العاملين في المملكة رواتبهم دون 300 دينار شهريا.
ثمة ما يدفع إلى استفزاز الشارع بكل تلاوينه، وهو الذي احتج بأشكال عديدة خلال السنوات الماضية ضد سياسات الإفقار والتهميش والتجويع والفساد. فمجلس الأمة، وبأغلبية ساحقة، يمنح النواب والأعيان رواتب تقاعدية مدى الحياة. ولن يجد الفقراء بواكي لهم، فمن أعد لنفسه ولعائلته راتبا تقاعديا وامتيازات عدة، سيذهب بعيدا عن أنين الفقراء ومشاكل الدولة الاقتصادية، بل سيتوافق حتما مع سياسة الحكومة.
للتذكير، يندرج الأردن في قائمة الدول الأكثر فقرا في موارد المياه، كما تشكل الطاقة التي يتم استيرادها من الخارج، عاملا ضاغطا على موازنة الدولة، ولدينا مديونية ثقيلة تقارب 30 مليار دولار. وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن ضبط الإنفاق الجاري، واتخاذ سياسات "رشيدة" لضمان عبورنا الاقتصادي بسلام، يتم منح النواب والأعيان رواتب تقاعدية مدى الحياة أسوة بالوزراء. وهو ما يجعل الحديث عن الأولويات والحكم الرشيد مجرد كلام مطبوع على أوراق لا يعنيها أحد، ولا تجد طريقا إلى التنفيذ لغياب الإرادة.
أسوأ التشوهات التي يمكن أن تلحق بأي اقتصاد، لا تعدو أن تكون فقدان الثقة في العلاقة بين النخب والشعب. وأظنها مفقودة لدينا، وفقا لاختلاف الأولويات وتشابك المصالح التي تتفوق فيها مصلحة النائب والعين والوزير على مصلحة المواطن الفقير في الأطراف. وليس مطلوبا والحالة هذه أن يقدم مجلس النواب أفكارا خلاقة لإنقاذ الدولة والشعب من براثن المديونية والفساد والفقر.
عادت بي الذاكرة سريعا إلى ربع قرن مضى، واستذكرت مشهدا لا يمكن نسيانه لنائب يقف إلى جانب الشارع الرئيس في الهاشمي الشمالي، وقد تعطلت سيارته المتواضعة، بسبب ارتفاع حرارة المحرك. وقد رفض النائب آنذاك مساعدة الآخرين، بعد أن شكرهم بأدب جم، وأصلح السيارة بنفسه ومضى. يومها كان بيننا نواب حقيقيون، وعلاقة راسخة تربطهم بقواعدهم الشعبية بعيدا عن المال والتعالي.
الغد