الهروب الى الأمام
تحت ضغط الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها منطقة اليور، والدعوات الصريحة للتخلي عن العملة الأوروبية، وتنبؤات كبار المحللين الاقتصاديين عن اقتراب تفكك منطقة اليورو، دعا رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو لاقامة اتحاد فيدرالي للدول الأوروبية، تعكس هذه التصريحات فشل كافة الاجراءات التي اتبعتها الحكومات لانتشال الاتحاد الاوروبي من الأزمة المالية والاقتصادية، كما تعبر عن عدم الثقة بفعالية الاجراءات المتخذة بتحقيق انفراج اقتصادي، والمطالبة بخطوات اوسع لمواجهة الازمة، على الرغم من الاجراءات المصرفية التي اتخذها البنك المركزي الاوروبي بدعم سندات الدول المتعثرة، فالامر يتطلب اتحادا في السياسات المالية والمصرفية والاقتصادية من وجهة نظر باروسو. لكن هذا ليس سهلا فإقامة اتحاد بين اقتصادات قوية واخرى في غرف الانعاش ستكون لها ثمنا باهظا.
وقد جاءت دعوة رئيس المفوضية في ظل اشتداد الأزمة، التي طالت دولا مهمة مثل ايطاليا، اسبانيا والبرتغال اضافة الى اليونان، وازدياد تكلفتها على الدول المانحة. أما المانيا التي تعتبر من أكبر اقتصادات أوروبا فقد تراجع اقتصادها للشهر الخامس على التوالي، وفقا لآخر مسح أجراه معهد "إيفو" للدراسات الاقتصادية، وتأتي نتائج المسح لتؤكد ازدياد تذمر الألمان إزاء موقف بلادهم بتقديم دعم للدول الأوروبية الغارقة بالديون، حيث كشف استطلاع للرأي حول مستقبل اليورو ان ثلثي الألمان يعتقدون أن بلادهم أفضل حالا من دون اليورو. كما عبرت الحكومة الالمانية عن مخاوفها ايضا من استمرار الازمة، فقد اعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن الأسواق المالية لا تثق بقدرة بعض الدول في منطقة اليورو على سداد ديونها على المدى الطويل، وأن العالم يتساءل عن مدى قدرة دول المنطقة على المنافسة.
لا اقلل من أهمية وحدة السياسات المالية والاقتصادية في ظل الوحدة النقدية، في حال توفر الارادة السياسية والاقتصادية لتحقيق اتحاد فيدرالي واستعداد الدول الكبرى خاصة المانيا لتقديم تضحيات لصالح الدول الفقيرة في مجموعة اليورو لانجاح الفكرة. فهناك اهمية خاصة لقيام هذه الوحدة لتجاوز بعض المشاكل الاقتصادية التي تواجه الدول الاوروبية، ومع ذلك فوجود عملة موحدة كما هو الحال في مجموعة اليورو يحرم الدول التي تعاني من ضعف التنافسية من تحقيق سياسة نقدية مرنة، تسهم في تحفيز الاقتصاد وتخفف من آثار الأزمة المالية والاقتصادية. لكن السؤال الجوهري هل اقامة الاتحاد الفيدرالي لمجموعة اليورو تنهي الازمة المالية والاقتصادية، وهل تعافت امريكا من الازمة وهي تمثل اكبر اتحاد اقتصادي في العالم؟ وهل تعافت الدول الاوروبية التي لم تشترك في الوحدة النقدية وفي مقدمتها بريطانيا من الازمة ؟
من السذاجة الاعتقاد ان اقامة اتحاد فيدرالي ينهي الأزمة المالية والاقتصادية في مجموعة اليورو، لا شك ان هناك أسبابا أخرى وراء الأزمة التي تعاني منها دول المجموعة والنظام الاقتصادي الرأسمالي عامة، وهي تكمن في أسلوب الانتاج الرأسمالي، والتناقض الحاد بين العمل ورأس المال، والذي يفضي الى أزمة اقتصادية عامة، بسبب غياب التوزيع العادل للثروة وتمركزها بأيدي طبقة تشكل اقلية في المجتمع، فزيادة الانتاجية لا ترافقها قدرة استهلاكية عالية لدى العمال والفقراء والمهمشين في المجتمع ، الأمر الذي يؤدي الى تكديس المنتجات في المخازن، والدخول في مرحلة الركود الاقتصادي التي تمهد الى مرحلة الكساد، وقد تميز الركود الاقتصادي في الازمة الحالية "بالركود التضخمي"، على عكس طبيعة الازمات الكلاسيكية، فالمعروف ان مرحلة الركود الاقتصادي تؤدي الى انخفاض الاسعار بسبب قلة الطلب، مما يفتح الباب امام الاقبال على الاستهلاك والدخول في مرحلة الانتعاش في الدورة الاقتصادية. لكن الازمة الحالية لم تشهد انخفاضا بالاسعار على الرغم من مرور اكثر من اربع سنوات، سوى فترة محدودة بعد أيلول 2008 في ذروة الأزمة، وسرعان ما عاودت الأسعار الارتفاع، والسبب في ذلك أن الأزمة لم تنحصر في صلب الاقتصاد وتنعكس مظاهرها على السوق فحسب، فقد انتقلت الأزمة من قطاعات الاقتصاد الى الدولة، بما يعرف حاليا بالديون السيادية، لذلك فرضت هذه الدول ضرائب مرتفعة على المستهلكين، وخفضت الخدمات الاجتماعية، وانخفضت الأجور الفعلية، كما أن بعض الدول كاليونان خفضت حتى الأجور الأسمية، وأسهمت هذه الاجراءات بزيادة افقار المواطنين، وعرضتهم للإملاق المطلق، مما أسهم بتراجع النمو الاقتصادي، لفقدان القدرة الشرائية لدى جمهور المستهلكين، فالعلاقة جدلية بين تراجع النمو الاقتصادي، وزيادة معدلات البطالة. لذلك تشهد البلدان الرأسمالية ارتفاعا في معدلات البطالة وانخفاضا في معدلات النمو الاقتصادي، فالسياسات التقشفية التي استخدمت لتخفيض عجز موازنات هذه الدول اسهمت في تفاقم الأزمة.
العرب اليوم