منع من النشر
في مراحل تدخيني الأولى كانت "تعفيطة" سيجارة خلف "سور" المدرسة بمثابة جنحة عند المدير، أما
" النط" من فوق السور المحاذي لمدرسة البنات فهو كارثة قد يتم على اثرها الانذار او الفصل التعسفي واسوء الامور بينهما هي مرحلة وصول الخبر الى والدي وعلمه بذلك .
كان انتشال بعض رزم العدس من "كرم" الجيران كفيلة بأن تقوم الدنيا ولا تقعد وليعقد (الوالد) بحقي مع المنشقين من إخوتي مجلس تأديبي عاجل ولتنهال بعدها التوبيخات والبهادل على رأسي مصحوبة برشق غير منتظم من "الشباشب البلاستيكية" ولربما رفش بالأرجل اذا تمت محاصرتي قبل الهروب.
آنذاك، كنا نستعين بمولد كهربائي يعمل على الديزل لإنارة البيوت، وكان التلفاز سلعة كمالية وغير متوفرة عند الجميع، ولمشاهدة أخبار الثامنة بالابيض والاسود يلزمك وجود "انتين" هوائي فوق سطح البيت يعانق السحاب.
أما الذهاب إلى المدينة فانه يحتم عليك الترحال لنصف نهار مستخدما أكثر من وسيلة نقل للوصول الى قاع المدينة: حمار "ابو زياد " للشارع الرئيسي باجر مجاني ، باص صويلح عمان للمجمع الرئيسي بخمس قروش، "سرفيس" الحج "محمود" حتى وسط البلد بسبعة قروش ونصف، وكان مختار القرية هو الوحيد من يحتكر هاتفا ارضيا يدار عن طريق عامل مقسم يتنصت على نصف مكالمات أهل القرية.
في تلك الأيام كان المنع "مجموطا" لدى الجميع وكانت الخطوط الحمراء ذات هيبة ووقار ومقبولة لكلا الطرفين: المانع والممنوع ، حتى العقاب كان له طعم مختلف مردّه ان الطاعة لمن يستحقها
لماذا أصبح المنع في الوقت الحاضر منزوع الهيبة ومرفوض.
ولماذا انهارت قيم المنع ومشتقاته : الحكمة، الرزانة، الاحترام، الرأي والرأي الأخر، حرية التعبير. وهذا الانهيار مدعم بتجاهل واضح لما يحصل في العالم من ثورات إعلامية أودت بأنظمة دول برمتها، مع تغافل ان طفلا بعمر خمس سنوات قادر على جلب اي معلومة كانت ببضع ثوان وان المعلومة ذاتها لم تعد تطلب بل غدت تأتيك طواعية الى حيث كنت.
"منع من النشر" وكبت حرية الكلام أو التعبير واعتقال الفكرة ما هي إلا رسالة واضحة بوجود خلل جسيم في آلة الاعلام الرسمية وينذر بأن "الأكمة" ومن وراءها ما تزال تخفي الكثير من الاسرار المترصدة بأقلام المبدعين وأرائهم وحقوقهم وان هذه "الأكمة" لم تعد كافية لتغطية عورات يسهل كشفها بوسائل إعلامية اخرى.
أصبح الإعلام الرسمي وبكافة أشكاله سواء أكان مُتلفزا أو مكتوبا أو حتى محكيا عن طريق الناطق الإعلامي بلا نكهة ولا لون، وحدها رائحته هي الباقية، ويا لها من رائحة! ، والتحجيم والتكميم أضحت وسائل مترهلة وغير مقنعة امام انتشار وسائل تكنولوجيا تجعل وصول المعلومة مجانية.
هنالك حلان لا ثالث لهما، اما ان تعيدنا الحكومة الى زمن الابيض والاسود أو ان تراجع منظومتها الاعلامية التي عاف عليها الزمان.
وشخصيا اذا خيرت بين الاثنتين سأختار الاولى بلا شك .