2024-12-23 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

رئيس الوزراء يتجاوز جان بول سارتر ويعيد صياغة مفردات "تحقيق الذات"

تامر خرمه
جو 24 :

يبدو أن إلغاء الذات والتنازل عن كافة القناعات والمواقف السابقة، هو ثمن الوصول إلى الدوار الرابع وتقلّد منصب الرئيس منزوع الولاية والدسم.. لتشهد الحياة السياسية في الأردن ذات الشخصية "الشفافة" التي تحتلّ كينونة كافة رؤساء الحكومات المتعاقبة، حيث بلغت شخصية "الرئيس" من الشفافية ما يلغي كينونتها ليكشف حكومة الظلّ التي تصنع القرار وتوجّه الدولة.


لا يمكن لأي مراقب مهما بلغ من قوّة الملاحظة، إيجاد الفوارق بين صورتيّ الرئيسين الحالي والسابق، فموافقة د. عبدالله النسور على كافة اشتراطات المنصب، والتي فرضت عليه المضيّ بتنفيذ أجندات وتوجهات وتوجيهات مراكز صنع القرار الأخرى، دون أية بصمة ذاتية على أوراق مكتبه الرئاسي، جعلته نموذجا كربونياً استنسخ شخصية فايز الطراونة في ردائه السلطوي، بعد أن خلع رداء الشخصية الحصيفة الرائدة، التي امتلكت مخزونا هائلا من المعرفة وتراكم الخبرة، فقرّر الرئيس الجديد التنازل عن كافة مواقفه السابقة، والدخول في نفق الامتثال لقرارات المركز الأمني السياسي.


يقولون إن بإمكان المعارضة أن تقول ما تشاء وترى ما تشاء، لكن الذي يصل إلى السلطة يعرف قدرا من المعلومات يجعله قادراً على أن يرى أبعد من الجميع.. وقد يُقبل هذا التبرير لو أن تغييرا طرأ على الملفات التي طالما عارضها النسور تحت قبة البرلمان، رغم امتلاكه لمعلومات أكثر من تلك التي كان يحتفظ بها أركان الدوار الرابع في ذلك الوقت، بل كان النسور يجمع القصاصات الصفراء التي يسجل عليها معلوماته وملاحظاته ويرتب أفكاره قبل الانقضاض على السلطة، ليكون ذلك المعارض السياسي الذي أتقن دوره بامتياز.


الملفات التي تصدى لها النسور بقيت هي ذاتها، ورحلة النسور من المعارضة إلى السلطة لم تتقاطع مع أي تغييرعلى الساحة السياسية سواء فيما يتعلق بقانون الانتخاب أو بقانون المطبوعات، فمازالت المقاطعة الحزبية والشعبية الواسعة -نتيجة تمسك السلطة بقانون الصوت المجزوء- تحكم على الانتخابات النيابية المرتقبة بالفشل، ومازال قانون المطبوعات يجابه برفض الصحافة المستقلة ومناهضة كافة قوى المجتمع المدني لسياسة تكميم الأفواه.


لا يمكن تطبيق قانون المطبوعات رغما عن القطاع المعني به، فالمواقع التي أعلنت عصيانها الالكتروني مازالت ترفض القيام بالترخيص وفقا لمقتضيات هذا القانون العرفي، كما أن عملية التسجيل للانتخابات النيابية لا يمكنها تجاوز الواقع الذي كرّسه تعنت السلطة، ففي أحسن الأحوال لن يتجاوز عدد المقترعين 50% ممن حصلوا على بطاقاتهم الانتخابية، ما يعني أن المشاركة في تلك الانتخابات ستقتصر على 30% من الأردنيين، هذا في حال أطلقت القريحة العنان لتفاؤلها.


في الدول التي تجاوزت مرحلة التحوّل الديمقراطي، فإن الإقبال الواسع على صناديق الاقتراع يعدّ مؤشرا على تفاقم الأزمات، بعكس الدول حديثة العهد بالتجربة الديمقراطية، حيث يتناسب الاقتراب من نموذج الدولة العصرية طرديا مع حجم المشاركة في الانتخابات. قد يكون هناك رأي غير ذلك، ولكن على الأقل فإن هذا هو المقياس الذي تستند إليها الدول المانحة، والتي جعلت معوناتها مشروطة بمدى الإصلاح الذي تحققه السلطة، الأمر الذي يجرد الانتخابات النيابية المقبلة من أية فائدة ترتجى منها، حيث لن تكون هذه الانتخابات "مربحة" حتى بالنسبة لحسابات صناع القرار.


وأمام هذه المعضلة لا يمكن تفسير تراجع رئيس الوزراء عن مواقفه النيابية سوى بقدرة "الكرسيّ" الخارقة على تغيير القناعات وإلغاء الذات، خاصة وأن الرئيس فشل في اختباراته الأربعة، فقد احتفظ بطاقم الطراونة في فريقه الذي لم يتجاوز توازنات الكوتا الوزارية، ليخلق انطباعاً بأنه جاء ليمنح الحكومة السابقة شعبية تدفع باتجاه تحقيق المشاركة –الميؤوس منها- في الانتخابات المقبلة، لا لشيء إلا للحفاظ على "الصورة الديمقراطية" أمام الدول المانحة.


أضف إلى ذلك عدم نجاح الرئيس في اجتياز اختبار الخروج من مأزق الصوت المجزوء، ناهيك عن تصريحاته التي اقترب فيها من خطاب الناطق باسم حكومته -والحكومة السابقة- سميح المعايطة، في دفاعه عن قانون المطبوعات العرفي، والترويج لمنطق "حسن النوايا" عبر لعبة كلامية تظهر استخفافا بالغا بعقول الناس، حيث أن رغبة النسور الجامحة بلقب "دولة" حملته على اللجوء لذات الأسلوب التقليدي في الترويج لقرارات المركز الأمني السياسي بعد الفشل في تجاوزها.


أما فيما يتعلق بملف معتقلي الحراك، الذي شكل الاختبار الأهم لقدرة النسور على الاقتراب من حلم الولاية العامّة، فقد تجلى الفشل الذريع بامتلاك القدرة على صناعة القرار في تصريحات النسور المقتضبة ، والتي قال فيها إن الإفراج عن معتقلي الرأي يحتاج لمكرمة ملكيّة !!


وأمام هذا التحول الدرامي في رحلة تعديم الذات من أجل سلطة منزوعة الدسم، لن تجد حكومة الظل أفضل من النسور لتبرير موقفها عندما تنقل قرار رفع الأسعار من دائرة التجميد إلى موقع التنفيذ.. ولكن هل سيمتلك الرجل ساعتئذ تلك المهارات الكلامية الكافية لإقناع الشارع بالحفاظ على هدوئه، وخاصة بعد أن يكون قد جرّد التغيير الوزاري -الذي جاء به إلى السلطة- من كافة مبرّرات إجرائه ؟!

 

في كتابه "الكينونة والعدم" يعلن جان بول سارتر أن "الآخرين" هم الجحيم، محذراً الذات المتناهية من "الارتماء" في "الهم"، وذلك في ذات الوقت الذي يؤكد فيه ضرورة "التعديم" من أجل تحقيق الذات، غير أن "التعديم" الذي يتحدث عنه سارتر يتلخص جوهره في التخلص من الصفات التي تعيق الكينونة وتحول دون تجلي الذات المتخيّلة، والتي يعتبر التناقض بينها وبين "الذات المتحققة" هو مصدر القلق الوجودي، غير أن هذا يختلف تماماً عن "تعديم الذات" الذي تجاوز عبره رئيس الحكومة كافة ظواهر تجلي الكينونة عبر "رحلة الارتماء" في مقعد الرئاسة.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير