هل ينشأ إعلام "ديمقراطي" أقلّ رداءة ؟!
"هل ينشأ إعلام عربي أقلّ رداءة ؟".. سؤال طرحته الزميلة رنا الصبّاغ بجرأة على صفحات "الغد"، لتسلّط الضوء على حالة الاستقطاب التي يعيشها الإعلام العربي متنكّرا لـ "الاستقلال المهني و"لنواميس مهنة المتاعب".
وعلى أهميّتها، توحي مقالة الزميلة الصبّاغ، بأن مسألة "الانحياز" تقتصر على الإعلام العربي، الذي لم ينجح العاملون في ميدانه بالخروج من إطار "الصورة" التي يعكسونها لمجتمعاتهم، جاهلين حقيقة أنّ "الديمقراطيّة" هي "عمليّة تحوّل تراكمي"، عهلى حدّ تعبير الصبّاغ.
ولكنّ السؤال الذي تسلّل من بين سطور تلك المقالة، التي كشفت حقيقة الإعلام العربي بكلّ جرأة: هل حقّا تقتصر مسألة "الانحياز" على وسائل الإعلام العربيّة، وهل حقّق الإعلام المتمتّع بأعراف وقوانين وتجربة العالم "المتقدّم" والدول "الديمقراطيّة" استقلاليّته التامّة عن منظومة الاستقطاب ؟ أم أنّه استبدل استقطاب السلطة باستقطاب السوق ؟ وتذاكى في توجيه الرأي العام بطريقة أكثر ابتكاراً من تلك المقاربة السطحيّة التي اتّسمت بها "الأيسكرا" و"البرافدا" وأخواتهما ؟!
في سياق طرحها للأمثلة، سلّطت الزميلة الصبّاغ الضوء على المشهد الإعلامي المصري، المتّسم بشبقه الإقصائي المتأصّل في خنادق الاستقطاب، بين مؤيّدي ومعارضي الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وهي حالة مثاليّة لكشف أزمة الإعلام الموجّه المنحاز لأحد طرفيّ الصراع، بعيداً عن حقّ الرأي العام في معرفة الحقيقة.
وهنا، لن يضيرنا أن نتساءل عمّا إذا كان الرأي العام الأمريكي –مثلا- يرتوي بتلك "الحقيقة" عبر وسائل الإعلام المحظيّة بـ "الموديل الديمقراطي".. خاصّة عندما تتعلّق تلك الحقيقة بـ "الصراع في الشرق الأوسط"، أو بكواليس مسرح "وول ستريت" الذي يعدّ من أهم مسارح الـ
Off Off Off,, etc Off-Broadwayفي بطرياركيّة الثنائي المتصالح، السوق.. والعمّ سام.
ليس المقصود من هذه السطور تبرير حالة الاستقطاب التي يعيشها الإعلام العربي، بعيدا عن "نواميس مهنة المتاعب" وحقّ القارئ في معرفة الحقيقة، بل هي محاولة لإثبات وجهة نظر تصرّ على اعتبار أنّ "الحياديّة" هي محض وهم لم يسبق له أن تحقّق –حتّى الآن- لما اصطلح على تسميته بـ "السلطة الرابعة"، التي لم تخرج من إطار صورة الرواسب الاجتماعيّة، في أيّ مجتمع صدف أن تواجد على هذا الكوكب الصغير، وبصرف النظر عن البعد الزمكانيّ للصورة والإطار على حدّ سواء.
وبعيدا عن واشنطن –التي يروق للكثيرين، بمن فيهم كاتب تلك السطور، طرحها مثالا للقبح- فإن نظرة سريعة على الصحافة الأوروبيّة تكشف حالة الاستقطاب التي تعيشها وسائل الإعلام في القارّة العجوز فيما يتعلّق بأبرز التطوّرات السياسيّة الأخيرة، والمقصود هنا مسألة "أوكرانيا" وفوز الروس بها، بعد نجاحهم في ربح معركة سوريّة، واضعين حدّا قاسيا لطموح "المتحضّر الديمقراطي". أضف إلى ذلك حالة الاستقطاب المهيمنة على كثير من وسائل الإعلام التي مازالت تعيش مرحلة ما قبل الحرب العالميّة الثانية، كصحف المحافظين التي توزّع بالمجّان على المارّة، منافسة في انتشارها حتّى الصحف الصفراء، والتي تتشدّق بعناوين من قبيل "المهاجرين يغزون أوروبا".. وغيرها من العناوين العنصريّة، التي لم يفلح حتّى قانون تجريم "خطاب الكراهية" في تهدئة استعارها.
بصراحة، لم يكن الإعلام منذ نشوئه مستقلّا عن التجاذبات والصراعات السياسيّة في أيّ مكان على كوكبنا المنكوب بهيمنة الـ
Homo sapiens، فتلك "السلطة الرابعة" كانت ومازالت محض أداة للسلطة الحقيقيّة الوحيدة، بصرف النظر عمّا إذا كان شكل هذه السلطة يتمثّل بحزب حاكم، أو بسلطة اجتماعيّة ترتدي ثوب المعارضة، أوبسوق يتّخذ من "الموديل الديمقراطي" مسوّغاً لتكريس أقبح أشكال الدكتاتوريّة.
أمّا فيما يتعلّق بكون الإعلاميّين صورة تعكس حقيقة مجتمعاتهم، فهذا ينطبق حتّى على السياسيّين أو الثوريّين الهادفين لتغيير واقع تلك المجتمعات جذريّا، فهم في نهاية الأمر ليسوا إلاّ نتيجة الصيرورة الاجتماعيّة التي أفرزتهم، كما أن هذا ينطبق على أي مجتمع بشري يحاول الوصول إلى نموذج "المجتمع الإنساني"، الذي أزعم أنّه لن يتحقّق إلاّ بزوال كافّة أشكال الهيمنة وعلاقات القوّة
.(Power Relations)
.
حتّى الديمقراطيّة، التي تعدّ شرطاً لبناء أيّ مجتمع إنساني، لا يمكن تحقيقها إلاّ بضمان الحريّة، بمعناها الواسع، فتقييد الإنسان –وليس الإعلامي فحسب- بخوف من السلطة أو بالتقاليد الاجتماعيّة أو حتى بسلطة السوق، أو غيرها، لا يمكن له إلاّ أن ينتج حالة استقطاب قد تختلف في شكلها من مجتمع لآخر، غير أن جوهر المسألة سيبقى هو ذاته.
وفي النهاية، قد يكون من المفيد التأكيد على ما طرحته الزميلة الصبّاغ في مقالتها الجريئة، عندما كتبت: "ويبقى الأمل في أن ينتزع الإعلاميّون حقوقهم، لأنّها لن تعطى لهم على طبق من ذهب".. فعلاً، على الإعلاميين –شأنهم في ذلك شأن أيّ إنسان في أيّ مكان على هذا الكوكب- التحرّك لانتزاع حقوقهم، و"الجيل الجديد" لا يمكن له إلاّ إدراك هذه المسألة، لتغيير هذا الواقع المتردّي الذي صنعناه نحن وآباؤنا الأوّلون..