هبة تشرين.. بين لعبة "الثنائية" وأولويّات الشارع
الرهان الرسمي على تطمينات الغرب وإعجابه بـ "النموذج الأردني للديمقراطية"، واعتبار "شهادة" كل من السفير الامريكي في عمان، ستيوارت جونز، وسفيرة الاتحاد الاوروبي، يوانا فرونيتسكا، بمثابة دليل كاف على أن الأردن يمضي في المسار الصحيح فيما يتعلق بعملية الإصلاح.. لم تحل دون انفجار هبة تشرين في اللحظة التي أعلنت فيها السلطة رفع الدعم عن المشتقات النفطية، استجابة لتوجيهات البنك الدولي.
ولم يعد من المجدي محاولة تصوير المشهد الأردني على أنه صراع بين الإسلاميين والسلطة.. فالأمر تجاوز منطق اللعبة السياسيّة إلى المنعطف الذي فرضته حركة التاريخ.
كما أن مغامرة السلطة جرّدت رئيس الحكومة د. عبدالله النسور من مبرّرات وجوده في الدوار الرابع، حيث بات من المعروف أن التغيير -الأشبه بالتعديل الوزاري على حكومة الطراونة- جاء بهدف إضفاء الشعبوية على السلطة التنفيذية من خلال شخصية النسور، أملا في الترويج للعملية الانتخابية وفقا لـ "لنموذج الأردني".. غير ان الانحياز الأعمى ضد قوت المواطن، دفع بالشارع إلى مقدمة المشهد السياسي ليقود الحراك ويخرجه من حالة النخبوية التي اتسم بها الربيع الأردني خلال الفترة السابقة.
المنعطف الذي فرضته السلطة على واقع الحراك الشعبي من خلال قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية، دفع بالأوضاع إلى نقطة اللاعودة، حيث باءت مهمة النسور المتعلقة بالعملية الانتخابية بفشل ذريع عبر تكليفه بمهمة رفع الأسعار، الأمر الذي يحاول البعض استغلاله لإثارة خيار "إعلان الطوارئ" مجددا، كمخرج من الأزمة السياسية.
ويغيب عن أذهان بعض المراهنين استحالة الخروج من الأزمة عبر هذه اللعبة الأمنيّة- السياسيّة، بعد أن فقدت السلطة كافة مبرّراتها إثر اندلاع هبّة تشرين، الأمر الذي يجعل من قانون الطوارئ -في حال إقراره- إصرار على إشعال ثورة.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه التجارب استحالة نجاح الحلّ الأمني، فإن احتواء الهبّة أو تجاوزها عبر حلّ سياسي لا يأخذ لقمة عيش المواطن بعين الاعتبار، يعدّ ضربا من الخيال.. فسيناريو هبّة نيسان لا يمكن تكراره بعد 23 سنة مضت على تجربة "الديمقراطية" المنحازة لمصالح "كبار المستثمرين" على حساب المواطن الذي لم يعد يملك ما يقدّمه.
سياسة الانتخابات الصورية وديمقراطية الاستهلاك الإعلامي، أفلست تماما في اللحظة التي أعلنت فيها الحكومة قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطيّة.. وحتى قيادات الأحزاب التي قرّرت استغلال فرصة غياب الاسلاميين للوصول إلى البرلمان باتت محاصرة بقواعدها الحزبيّة التي تجاوزت منطق الوصاية وأعلنت انحيازها للشارع.
شبيبة حزب البعث الاشتراكي أعلنوا رفضهم لقرار المشاركة في الانتخابات قبل اندلاع الهبّة، وأثبتوا جدارتهم التنظيميّة خلال مختلف الفعاليات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد، وخاصة في محافظة الكرك.. كما كان لشبيبة الحزب الشيوعي دورا بارزا في مختلف المسيرات والاعتصامات التي شهدت درجة عالية من التنسيق والتنظيم.
أضف إلى ذلك أن هبة تشرين جاءت في ظلّ إعلان قوى يساريّة وقومية قرارها بمقاطعة الانتخابات النيابيّة، كحزب الوحدة الشعبيّة، والتيار القومي التقدّمي، الأمر الذي يدفع بالمشهد السياسي الأردني إلى تجاوز ثنائيّة السلطة والاسلاميين.
أما القوى التي تشكلت خلال الربيع الأردني، كتيّار التغيير والتحرير، فتبشّر بحالة متميّزة في قيادة وتنظيم الشارع الأردني، الذي بدأ يشهد انتقال الحراك من مشاهد "النخبوية" و"الثنائية" إلى إطاره الشعبي.
وعلى أرض الواقع، بدأت القوى اليسارية والقوميّة بالردّ على تصريحات وزير الداخلية عوض خليفات -التي حاول فيها تصوير المشهد الأردني على أنه حالة صراع بين السلطة وجبهة العمل الاسلامي- الأمر الذي يمكّننا من القول بأن هبّة تشرين دفعت بالعديد من هذه القوى إلى تجاوز حالة الركود التي هيمنت عليها خلال الفترة السابقة.
وفي الوقت الذي بدأت فيه القوى اليسارية والقومية بإثبات حضورها في الشارع، برزت الحالة الشعبيّة إلى المشهد الأردني، حيث بدأت بتجاوز اللعبة السياسيّة ومحاولة فرض إرادتها على مسرح الأحداث.
القوى الشبابيّة التي نجحت في إدارة وتنظيم الفعاليات الاحتجاجيّة خلال الأيام الماضيّة، قرأت هذا المشهد ولجأت إلى تكتيك جديد يتلخص بتوجيه الشارع لقيادة الفعاليات الاحتجاجية.. حيث كشفت المسيرة التي تم تنظيمها في جبل النزهة مساء الجمعة عن قدرة هذه القوى على قراءة الواقع والتعامل معه.
كما كشفت الصورة التي تم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعدد من النشطاء يشكلون حاجزا بشريا لحماية أحد البنوك خلال المسيرة.. عن درجة الوعي والمسؤوليّة التي يتمتع بها نشطاء الحراك، وكذلك يسعى الحراك الشعبي في مدينة الكرك إلى تشكيل لجان شعبيّة لحماية الممتلكات العامّة.
درجة الوعي والمسؤوليّة التي عبّر عنها سلوك الحراكيين، كانت الردّ الأمثل على تصريحات مدير الأمن العام، الفريق حسين هزاع المجالي، التي اتهم فيها عددا من النشطاء بأنهم من أصحاب السوابق، حيث قام المجالي خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده مؤخرا، بالانجرار إلى خطاب تحريضيّ استخدم فيه لغة سياسيّة لا علاقة لها بمنصبه كمدير للأمن العام.
الحلّ الأمني الذي تحاول السلطة اللجوء إليه لاحتواء الهبّة يتجاوز المغامرة إلى ما هو أخطر منها.. ولا يمكن إيجاد مخرج من الأزمة عبرّ حلّ سياسيّ صوريّ لا يتجاوز مسألة احتكار السلطة والثروة.. كما أن طرح "إعلان حالة الطوارئ" من شأنه أن يفجر الأوضاع ويقود البلاد إلى ما تشهده الدول المجاورة.. الأمر الذي يجعل صنّاع القرار أمام اختبار حقيقيّ لمدى قدرتهم على تجاوز مصالح "الحيتان" والبحث عن حلول حقيقيّة للأزمة الاقتصاديّة بعيدا عن جيب المواطن.. فإقرار الضريبة التصاعديّة من شأنه أن يشكل الخطوة الأولى على المسار الصحيح الذي لم تدرجه المؤسسات الماليّة الدوليّة على جدول نصائحها.
وأخيرا، فإن المواطن الأردني لا يكترث كثيرا بمنطق "الثنائيّة" التي يحاول البعض فرضه على الواقع السياسي، كما أن هبة تشرين تشكل الأرضيّة الخصبة للقوى اليساريّة والقوميّة لتجاوز هذه الثنائيّة.. وأمام هذا الوقاع، لا تملك السلطة إلا أن تعيد صياغة منطقها وفقا لأولويّات الشارع.