المستبدّ العادل.. نظريّة الموالين الجدد !!
"المستبدّ العادل".. فارس أحلام بات يراود أذهان كثير من ثوّار الأمس الذين عجزوا عن ترجمة النصوص النظريّة إلى موقف أخلاقي ينحاز للشعب ويدرك حركة التاريخ، فهالهم انفجار الربيع العربي دون انتظار "نضوج عواملهم الذاتيّة".. وتجاهلوا أن صيرورة الواقع لا تنتظر أحدا، فما لا يدركه كهنة الأصنام البشريّة أن المخلّص الوحيد هو الشعب، فبات ثوّار الأمس هم الأكثر تخوّفا بل ومناهضة للثورات الشعبيّة !!
يبرّر أصحاب نظريّة "المستبد العادل" أو "القائد المخلّص" انحيازهم إلى هذه الفكرة بوصول الاسلاميّين إلى السلطة في مصر وتونس، ويحلّقون في تحليلاتهم ضمن حدود نظريّة المؤامرة لتوصيف ما يجري في سورية على أنّه معادلة لا مكان فيها للشعب السوري، ليصل الأمر بهم إلى مناهضة الربيع العربي واعتباره مجرّد لعبة صنعتها طواحين الهواء، منتظرين "الدونكيشوت الأحمر" لتخليصهم منها وقتل التنّين الاسلاموي- الليبرالي.
المنطق الأحادي مازال يهيمن على عقليّة من اعتبروا أنفسهم ذات يوم طليعة الشارع وقادته نحو التحرّر، واستسلموا تماما لخرافة "الأبيض- والأسود"، فتجدهم اليوم يعلنون صراحة انحيازهم وولاءهم لأكثر الأنظمة المافيويّة استبدادا، بل ويدافعون بشراسة عن بقاء هذه الأنظمة التي حالت دون نهضة وتقدّم شعوبها لأكثر من نصف قرن من الزمن. والمبرّر الذي يلجأ إليه الموالون الجدد هو اعتبار القادم أكثر سوءً من الواقع المتردّي الذي كرّسته أنظمة الفساد والاستبداد.
لا ندري كيف اقتحمت هذه الفكرة رؤوسا حفظت نظريّات الثورة وبصمتها عن ظهر قلب، وكيف يصرّ البعض على تجاهل حقيقة أن الثورات العربيّة بدأت بإسقاط رموز الأنظمة البوليسيّة ولم تنته عند ذلك الحدّ، وما تشهده مصر اليوم قد يختصر الحكاية كلّها، ولكن للخوف على ما يبدو تأثيره الغريب في تحويل ثوّار الامس إلى موالين أكثر شراسة من الموالاة التقليديّة، التي وُصفت طيلة العقود الماضيّة بالتخاذل والتواطؤ والعمالة.
وصول الإسلام السياسي إلى السلطة مسألة بديهيّة، لن يعجز أيّ أحد عن توقّعها في حال إجراء أيّة انتخابات ديمقراطيّة نزيهة في العالم العربي، ولكن تصوّر بقائه في هذه السلطة سيكون أقرب إلى الهذيان، وذلك لأسباب كثيرة لا تقتصر على طبيعة الإسلام السياسي فحسب، بل يتعدّى الأمر ذلك إلى طبيعة المرحلة وحركة التاريخ، التي لفظت منظومة اللون الواحد ليفرض مبدأ التعدديّة حتميّته وشروطه على أرض الواقع، مقترناً بيقظة شعبيّة لم تعد تسمح باحتكار الثروة والسلطة، بدليل التحوّلات الجذريّة التي يشهدها العالم بأسره.
وما يجري في تركيا أو البرازيل يمكنه تلخيص التحوّلات التي يتّجه العالم نحوها، أمّا الهروب من هذا المنعطف إلى حلم "القائد المخلّص"، ومحاولة تأبيد الوضع القديم في العالم العربي بذريعة التخوّف من القوى القادرة على استلام السلطة مؤقتاً، فلا يمكن له ان يكون مجرّد استسلام.
مفهوم الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة بات مشوّها عند بعض من وصفوا انفسهم بـ "الطليعة"، حيث ينظرون إلى هذا المفهوم على أنه جمع جبريّ لجزئيّتين مختلفتين، فتراهم يرفضون الديمقراطيّة بذريعة تناقضها المزعوم مع "الوطنيّة"، ويحاولون تسويق فكرة "المستبدّ العادل" على أنّها الحلّ الوحيد للعالم العربي، وأن من شأن هذا النسق من الحكم الفردي نقل المنطقة إلى مرحلة متقدّمة، "لأن الشعب الآن لا يعرف مصلحته وسينتخب الاسلاميّين" !!
منطق ضحل جمع حوله كثير من المنظّرين في الأردن تحديدا، حتى بات بعض من يعتبرون أنفسهم من قوى اليسار يعلنون صراحة اصطفافهم في خندق السلطة، بذريعة "خطر الاسلاميّين" تارة، وبحجّة مؤامرة الوطن البديل التي "تحاك" باسم الديمقراطيّة تارة أخرى، وترى منهم من ينظّر لمفهوم "الدولة الريعيّة" باعتباره الحلّ الأسلم لحماية المصلحة الوطنيّة الأردنيّة !!
التجارب التي شهدتها المنطقة منذ نهاية عهد الاستعمار المباشر، لم تترك مجالا للشكّ بأن الشعب وحده هو ما يمكن الرهان عليه في مواجهة المشاريع التصفويّة، خاصّة فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، فأيّ نظام مستبدّ، وإن ادّعى "الوطنيّة" سيكون منحازا لمصالحه الذاتيّة التي ستتّجه في نهاية الأمر الى رعاية واشنطن، ولا يمكن للحديث عن الدولة "الوطنيّة" غير الديمقراطيّة أن يتضمّن أبسط أبجديّات المنطق، بل سيكون حتى التناقض اللغوي صارخا بمجرّد طرح مثل هذا المفهوم، تماما كذلك التناقض المضحك، الكامن في تركيبة "المستبدّ العادل".
وفي مواجهة الموالين الجدد ومعارضة الاسلام السياسي، هناك من يؤمن بالشعب ويتفاءل بقدرته على صنع التغيير، ويدعو دون مواربة إلى بناء الدولة المدنيّة.. فرغم حداثة هذا المفهوم مقابل تردّي الواقع العالمثالثي، إلا أن الإرادة الشعبيّة التي بدأت بفرض معادلتها منذ ثورة تونس، قادرة على تحقيق ما يعتقده البعض مستحيلاً.. والأهمّ من مجرّد الدعوة لبناء الدولة المدنيّة هو تضمين هذا الخطاب -الذي يطرح البديل الثالث- بجوهر الأزمة المتمثّل باحتكار الثروة واستفراد السماسرة في صناعة القرار.. فالأساس الاقتصادي مسألة لا يمكن تجاوزها في أيّ طرح نهضويّ يهدف إلى التقدّم والارتقاء لمستقبل يمتلك فيه الشعب الثروة والسلطة.