مشروع الفدرالية.. وخطيئة الرهان على "لعبة النرد"
بعيدا عن غرابة لعبة النرد ومعجزة الصدفة، جاءت تصريحات محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، التي أكد فيها تنازل سلطة رام الله عن حق العودة، عقب تصريحات فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، والتي كشفت بدورها عودة الحلول الفدرالية لتحتل موائد صنع القرار عبر مشروع "وحدة الضفتين"، وذلك بالتزامن مع اندماج حزب "الليكود" مع حزب "اسرائيل بيتنا" قبيل انتخابات "الكنيست"، التي حسمت نتائجها منذ الآن لصالح القيادات الصهيونية الأكثر تطرفا فيما يتعلق بمشروع "الوطن البديل".
تنازل محمود عباس عن حق العودة ليس بالأمر الطارئ على المشهد السياسي الفلسطيني، وكذلك لم تكن "الحلول الفدرالية" بالأمر الجديد على الساحة، لكن توقيت مثل هذه التصريحات، بالتزامن مع اقتراب موعد انتخابات "الكنيست" والانتخابات النيابية الأردنية على حد سواء، هو ما يعيد إلى الأذهان المخاوف المتعلقة بمشروع الوطن البديل، خاصة في ظل إصرار السلطة في الأردن على تأزيم الأوضاع، رغم ما تشهده المنطقة من تطورات إقليمية استثنائية.
أضف إلى ذلك تكريس حالة الانقسام على الساحة الفلسطينية، والزيارة القطرية لقطاع غزة، وتوطيد العلاقات بين حركة حماس والمنظومة النفطية، ارتباطا بانتقال الحركة من خندق المقاومة إلى سدة السلطة، وتغيّر خطابها الذي بات محوره "الهدنة طويلة الأمد".
انسداد آفاق الحلّ على الساحة الفلسطينية، وتخلي كل من حركتيّ فتح وحماس عن مشروع استعادة الوحدة الوطنية، وانتقال "الولاية الحمساوية" من "القساميين" إلى دبلوماسية العلاقات الخارجية، تحقق لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية كافة المناخات المواتية لترجمة الطقس السياسي إلى واقع تفرضه "البرجوازية" في رام الله وعمان -على حد سواء- لإحكام حلقات الهيمنة الاقتصادية لشريحة وضعت كافة مصالحها في سلّة "الشريك الاستراتيجي".
الاحتلال الذي كرس مصالح البرجوازية السلطوية في الضفة الغربية يسعى لمصادرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وكذلك تدفع السياسات الرسمية في الأردن باتجاه انسداد آفاق الحل السياسي وتعميق الأزمة الاقتصادية، بالتزامن مع التقلبات الجذرية التي تشهدها المنطقة، وخاصة في سورية، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بمحاولة فرض 'الحلول الإقليمية.
ومن هنا، فإن الترجمة المنطقية الوحيدة لسياسة التأزيم التي تصر عليها السلطة في الأردن، هي الدفع باتجاه فرض خيار الحلول الفدرالية وكأنها الحل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة، وذلك بعد مصادرة حق الشعب في الاختيار بين وحدة الضفتين أو دسترة فك الإرتباط.
كما أن إصرار السلطة على التفرد في صناعة القرار، عبر إجراء انتخابات نيابية صورية، في الوقت الذي تتعمق فيه الأزمة الاقتصادية الخانقة، يعيد إلى الأذهان الانتخابات النيابية التي جرت في العام ١٩٩٣ تمهيدا لتوقيع معاهدة وادي عربة، ولا ننطلق من معطيات "نظرية المؤامرة" إذا ما ربطنا ما بين واقع اليوم ومعطيات الأمس، ف "صناع القرار" لا يلعبون بالنرد كما يفعل البعض، حيث جاء قانون الانتخاب الحالي في ظل ما نشهده من تطورات إقليمية، ليسهم في إعادة تدوير "مجلس السلطة النيابي" بعد "تطعيمه" ببعض رموز "المعارضة" تمهيدا للسيناريوهات القادمة.
خطيئة "الاجتهاد" تكمن في مساعي البعض لخوض لعبة الانتخابات عبر قواعد "إعادة التدوير"، بل والترويج ل "المعركة الانتخابية" على أنها "ضرورة وطنية" للتصدي لمؤامرة "البرجوازية"، رغم إدراك هذا "البعض" لماهية المجلس النيابي المقبل، والذي اتضحت ملامحه منذ الآن !!
أما التمترس في زاوية المصالح الضيقة، فقد دفع عددا من الأحزاب القومية واليسارية لتغيير مواقفها والانسحاب من الشارع، تمهيدا لمشاركتها في الانتخابات النيابية المقبلة، ما انعكس سلبا على الحراك الشعبي الذي تحاول السلطة تصويره على أنه مشروع خاص بالحركة الاسلامية وحدها، في سياق سياسات استثمار "الاسلاموفوبيا"، وذلك رغم وجود عشرات الحراكات التي لا ترتبط تنظيميا بأية جهة سياسية.
أن تعارض قانون الصوت المجزوء، وتقبل في ذات الوقت بخوض الانتخابات النيابية استنادا إليه، لا يجردك من كافة أدوات الضغط فحسب، بل يجعل مشروع المعارضة السياسية عرضة لفقدان مصداقيته لدى الرأي العام، خاصة وأن خطاب المعارضة مازال نخبويا حتى اليوم، ولم يتمكن من الوصول إلى المواطن البسيط الرازح تحت وطأة الأعباء المعيشية.
في ظل هذا المشهد الذي تهيمن عليه أسوأ السيناريوهات المتوقعة، فإن الحراكات الشعبية لا تملك إلا توحيد جهودها والارتقاء بمستويات التنسيق فيما بينها، للدفع باتجاه خلق رأي شعبي ضاغط، يسهم في تغيير قواعد اللعبة السياسية، وفرض إرادة الشارع.. حيث أن خوض اللعبة الانتخابية وفقا لهذه القواعد، لا يمكن اعتباره سوى هروب إلى "صدفة حسنة" تفرزها نتائج الانتخابات المحسومة سلفا، ورهان خاسر على لعبة نرد منزوعة الاحتمالات.