الأردن الرسمي.. بين لعبة عضّ الأصابع في الغرف النفطيّة ورصاصة العمّ سام
الفشل الذي منيت به حكومة النسور فيما يتعلق بالترويج للعمليّة الانتخابية، لم يكن أسوأ ما قوّض برنامج المركز الأمني- السياسي الذي يحاول عبثا كسب التأييد الشعبي لنموذج الديمقراطية الصوريّة، بل كانت مهمّة رئيس الحكومة المتعلقة بتطبيق إملاءات البنك الدولي هي المدية التي قطعت شعرة معاوية بين السلطة والشارع، حتى بات صنّاع القرار في مواجهة شرسة مع منطق المغامرة التي دفعتهم نحوها منظومة النفط الخليجيّة.
"عليّ وعلى أعدائي".. شعار قديم جسّد حال السلطة التي أقدمت على رفع الأسعار كردّة فعل لا تخلو من التحدّي لقرار "الشقيقة الكبرى" فيما يتعلّق بإدارة المساعدات الخليجيّة، الأمر الذي جعل المشهد السياسي في الأردن أقرب إلى لغة التحدّي المقامر، والتي يحاول المطبخ السياسي من خلالها الضغط على صنّاع القرار الإقليمي، سواء في الشرق الخليجيّ أو في الغرب الأمريكيّ.
لسان حال المطبخ السياسي الأردني بدا وكأنّه يقول لحلفاء العمر: إن شئتم فلتكن الثورة.. فلا يمكن وصف دوافع قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطيّة بغير هذا المنطق المقامر، الذي من شأنه قلب الطاولة على رأس الواقع، ليس على مستوى الأردن فحسب، بل على صعيد المنطقة برمّتها، خاصّة وأنّ قرار السلطة جاء في ظلّ ما يجري على الحدود الشماليّة.
مصيبة إذا كانت المساعدات والإصرار على نيلها وإدارتها، دون حسيب أو رقيب، هو ما دفع بحكومة الظلّ إلى الإيعاز لرئيس الوزراء برفع الدعم دفعة واحدة عن المحروقات، لتندلع هبّة تشرين التي لن تكون سوى مقدّمة لحالة شعبيّة عارمة، لن تستطيع أيّة سلطة احتواءها.. على الأقلّ هذا ما يؤكده الواقع السياسي.
وفيما يبدو لا تقلّ رغبة المقامرة لدى منظومة النفط عن تلك التي تحكم صناعة القرار الأردني، فالخليج الذي أعاق على مدى سنوات أيّة تحولات إصلاحيّة من شأنها ان تقترب من تحقيق المملكة الدستوريّة على الحدود الشماليّة للسعوديّة، يحاول الضغط على الأردن من خلال لعبة المساعدات لدفعه باتجاه التورّط في الشأن السوري.
أمّا العم سام، فيراقب من واشنطن لعبة كسر العظم بين المملكتين الشقيقتين.. وفي الوقت الذي تراهن فيه "الشقيقة الكبرى" على أن الولايات المتحدة هي الضامن الأساسي لاستقرار الأردن، تطفو على السطح السياسي مشاريع إقليميّة تتعلق بالكونفيدراليّة وضمّ الضفتين وما إلى ذلك من طروحات تمهد لحلول إقليميّة يتلخص جوهرها بفكرة "الوطن البديل".
وبالتزامن مع هذه المعطيات، تخرج "سيّدة" المقاومة الإسلامية "حماس" لتعلن على رؤوس الأشهاد بأنّها لا تقف ضدّ مشروع الدولة الفلسطينيّة على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في العام 1967.. بل وتبارك توجهات سلطة رام الله الرامية إلى وضع "الحلّ المرحلي" للقضيّة الفلسطينيّة على جدول أولويّات الأمم المتحدّة.. في هذا التوقيت بالذات، يلوح المشهد الأردني بأخطر ما يمكن تصوّره من "حلول" لكافة الأزمات التي تعصف بالمنطقة، حيث يدفع صنّاع القرار بالمملكة باتجاه حلّ إقليميّ ينهي كافة الملفات العالقة، من وجهة نظر غربيّة، خاصّة وأن الواقع الجيوسياسي غرب النهر لا يتيح -بأي حال من الأحوال-إقامة الدولة الفلسطينيّة بمعزل عن "الضفة الشرقيّة".
المقامرة السعوديّة أغفلت تماما هذا السناريو -على الأقل إذا افترضنا غياب الشراكة في هذه اللعبة- وراهنت على قدرة الأردن الرسمي على قمع الاحتجاجات الشعبيّة والحفاظ على الوضع كما هو عليه -بما لا يتناقض مع الرؤية الخليجيّة- ولكن هل ستتحمّل "أسطورة" المال النفطي انعكاسات التغيير الجذري على حدودها الشمالية في حال وجد سيناريو "الكونفدرالية" طريقه إلى أرض الواقع ؟!
مشروع الكونفدرالية أو الفيدرالية -كما يشاء البعض- لن يكون معزولا بأي حال من الأحوال عن مشروع الملكيّة الدستوريّة التي تستوجب شراكة الإسلاميين في السلطة، فلا يستطيع أحد إنكار حقيقة أنهم القوة الوازنة في الشارع العربي.. وما استعادة مصر لدورها وفق الطرح الحمساوي -بالتزامن مع تصريحات مشعل- سوى خير دليل على ما يتم إعداده في الغرف الإقليميّة المغلقة.
وفي ظلّ هذا السيناريو المحبط.. قد يجد المتشائمون مبررا كافيا لمحاربة الحراك الشعبي، ووضع مخاوف "الوطن البديل" في مواجهة أي طرح أو مطلب يتعلق بالتغيير، ولكن ماذا لو كانت قرارات السلطة الأردنية لا تقتصر على كونها مغامرة تهدف للضغط على حلفاء النفط.. ماذا لو كانت شريكة في هذا السيناريو الذي لا يمكن إنكار واقعيته الممكنة ؟!
وإدراكا لجدليّة العلاقة بين المتغيرات الإقليميّة والوضع المحلي.. كان طرح الحراك حاسما فيما يتعلق بالمواجهة مع المشروع الصهيوني.. كما ان لعبة العزف على أوتار الأصول والمنابت ما عاد بإمكانها ان تخدم حكومة الظلّ، بعد أن توحدت كافة شرائح وأطياف المجتمع على مبدأ الدفاع عن لقمة الخبز.. لذا فإنه لا يمكن وصف قرار الحكومة برفع الأسعار سوى بأنّه انتحار رسميّ.. وما هبّة تشرين سوى غيض من فيض الآتي.. والأيّام كفيلة بالبرهان.