عندما ينقلب "الساحر" على سحره..
ماذا حصل بعد إطفاء الأضواء واختلاط الحابل بالنابل لحظة الإعلان عن تمديد فترة الاقتراع ؟!
صمت صاخب.. وانتخابات في الظلام.. لعبة تفرضها مشيئة "الصدفة" الغريبة في مشهد يتكرّر عند كلّ استحقاق نيابيّ.. وهكذا تترك الكهرباء ساحة المعركة الديمقراطية لخبرة الدوائر المختصّة بتجسيد النموذج الأردني في صناعة البرلمان.
لعبة "البيضة" والصناديق.. واقتراع الثلاث ورقات.. وتسرّب محاضر الفرز التي تناقلتها أيادي المواطنين.. وغير ذلك من عجائب السحر الانتخابي، لم تستهدف فيما يبدو الدوائر المحليّة بقدر ما أراد لها الساحر "شقلبة" القوائم الوطنيّة لغاية في نفس يعقوبه.
أمّا الهيئة المستقلة للانتخاب فقد غُلبت على أمرها، وجلست في زاوية الرثاء لا حول لها ولا قوّة، منذ الإعلان عن تمديد فترة الاقتراع، لتبدأ ماكنة أخرى من العيار الثقيل، بلعبة الأرقام وفوازير الحسابات.. ولكن الغريب كان إصرار حكومة الظلّ على كشف حالة الإرباك للرأي العام، وكأن صنّاع البرلمان يفضّلون "اللعب على المكشوف" والجهر بتبديل وتغيير النتائج لغاية أخرى، لا يعلمها إلا الله والراسخون في السياسة الرسميّة.
أضف إلى ذلك قيام وسائل إعلاميّة رسميّة وشبه رسميّة بتسليط الضوء على عديد من التجاوزات التي شابت العمليّة الانتخابيّة، والتي اعترف بها رئيس الهيئة المستقلة للانتخاب بشكل علنيّ، خلال مؤتمر صحفي عقدته الهيئة ظهر الاثنين.
الهيئة -كما أشرنا- غُلبت على أمرها، وتجرّدت من كافّة صلاحيّاتها منذ أن قرعت الساعة أجراس السابعة مساء "العرس الانتخابي"، وكان التصريح المقتضب للناطق الإعلامي باسمها، حسين بني هاني، قد أفشى كثيراً من الأسرار، عبر لغة الجسد التي باحت بشكوى الرجل واختزلت غصّته.
وانتصرت "الماكنة".. لتبدأ لعبة "ألغاز القوائم".. تحت وابل من سهام الإعلام شبه الرسميّ، الذي انتقد -للمرّة الأولى- نتائج الانتخابات، رغم حرص صنّاع القرار على الترويج لـ "نزاهتها" و"شفافيّتها".. ولكن لماذا ينقلب الساحر على سحره ؟!
يبدو أن صراع مراكز القوى دفع بالبعض إلى اللّعب بالنار، وتسليط بعض الأقلام على صنعة الانتخابات، في عملية تصفويّة بدأت منذ تحويل أوّل المتورطين بقضايا الفساد إلى الادّعاء العام.. ولم تنته عند انقطاع التيّار الكهربائي عن مراكز الاقتراع.
وعبر هذه الدوّامة، برز إلى السطح أحد سيناريوهات "العبط السياسي"، من خلال محاولة صناعة الشرعيّة واختلاق "البديل الوسطي".. بل دفع "الساحر" بحزب الوسط الإسلامي إلى ترشيح مروان الفاعوري رئيسا للحكومة "البرلمانية" المنتظرة !!
ولكن.. إلى أين يمضي المغامرون بأوركسترا "القوائم الوطنية"، التي شاب عزفها نشاز يطرب له رجالات الظلّ ؟! هذا ما ستجيب عنه الأيّام المقبلة برعاية رئيس الديوان الملكي الجديد، فايز الطراونة.
وبعيدا عن كواليس القوائم الوطنيّة.. كانت الأرقام المتعلّقة بالدوائر المحليّة منطقية إلى حدّ ما.. ومن هنا جاء لوم اللائم الذي حمّل الشعب مسؤوليّة اختيار المجلس النيابي السابع عشر.
غريب أمر هذا اللائم الذي تناسى تفريغ العملية الانتخابيّة من مضمونها، بحيث لم تعد لها أيّة علاقة بمبدأ التمثيل.. وهل حقاً يعتبر أن الشعب الفقير مسؤول عن اختيار مجلس نيابي يضمّ ثلاثين مليونيراً ؟!!
توليفة البرلمان التي كانت نتيجة طبيعيّة لنسف قيمة التمثيل عبر تزوير إرادة الناس في مختلف المحطّات الانتخابيّة، لا تمتّ بأية صلة للإرادة الشعبيّة التي كانت ومازالت مغيّبة عن المشهد السياسي الأردني.. ولا نقصد هنا الاكتفاء بحكاية التزوير.. ولكن المواطن -بكلّ بساطة- فقد الثقة بقيمة صوته، ولا يمكن لإيمانه بعبثيّة اختيار "ممثليه" أن يتزحزح.
وفي حال توجهت بالسؤال إلى أيّ مواطن بسيط وطلبت رأيه فيما يتعلّق بالعملية الانتخابيّة، سيعبّر لك عن قناعاته الراسخة، بأن البرلمان لا يمثّل سوى أصحاب المصالح الشخصيّة، وأن كلّ ما ينتظره من هذه الانتخابات هو الحصول على حفنة من الدنانير تقيه برد الشتاء، أو تعيين ابنه أو ابنته في إحدى الوظائف التي تمكّن العائلة من تسديد فواتير الماء والكهرباء.. حيث يدرك هذا المواطن -الذي لا يجرؤ على الأمل- أن علاقته بأي نائب ستنقطع تماماً بمجرّد وصوله إلى البرلمان.
تسخير المجلس النيابي لخدمة مصالح قوى الفساد ولاستبداد، وتجريد المواطن الأردني من ثقته، وتفاقم الأوضاع المعيشيّة البائسة، تدفع باللوم بعيداً عن هذا المواطن الذي لم تتمكّن أية جهة نخبوية -حتى اليوم- من ملامسة همومه والتعبير عن قضاياه.
ماذا تنتظر من الناس بعد إرساء قواعد اللعبة السياسية وفق رغبات ونزوات الطغمة التي تحتكر السلطة والثروة ؟! وبعد تشييد حواجز العزلة بين النخب و"الطليعة" السياسية وبين الأحلام البسيطة التي كان يملكها الأردنيّون ذات يوم ؟!
السلطة لم تكن مضطرّة إلى تزوير نتائج انتخابات الدوائر المحليّة، فقد أرست كافّة الشروط الاّزمة لضمان انسجام التوليفة النيابيّة مع توجّهاتها وسياساتها.. ولكن مازال الغموض يحيط بلعبة "القوائم" التي أراد لها "الساحر" أن تحظى بساعة تمديد للاقتراع، وليلة لا تنسى من صراع الكواليس، بل ومسرحيّة أرقام لا تنتهي..