jo24_banner
jo24_banner

بانوراما الحراك.. بين شتاء موسكو وإسقاطات "فاوست" على المسرح السياسي الأردني

تامر خرمه
جو 24 :

 

لا يخفى على أحد أن انسحاب بعض قوى المعارضة السياسية من مشهد الحراك الشعبي جاء ارتباطا باستحقاقات صفقات العملية الانتخابية التي تقتصر على بناء "النموذج الأردني" للديمقراطية، المنسجم مع معادلة جلب المعونات والمساعدات الغربية المشروطة، دون إضافة أية أدوات غير رسمية لمطبخ صنع القرار.


هذه الصيغة تشتمل على طرفيّ المعادلة الأمثل لتلبية رغبات السلطة وتحقيق مصالح حكومة الظلّ، ولكن ما هي المكاسب التي قد تحققها القوى المنظمة -التي حسبت نفسها على المعارضة الوطنية- من استثمار غياب الاسلاميين لإيصال ممثليها إلى البرلمان المرتقب، الذي حُسمت نتائجه وتركيبته منذ الآن بفضل قانون الانتخاب ؟!

ربما تكون بعض هذه القوى -وخاصة تلك التي مازالت تعتبر نفسها أحزابا يساريّة- تتبع التكيتك اللينينيّ الذي فرضته الظروف الموضوعية في موسكو وأكنافها قبل نحو قرن من الزمن، حيث اعتبر الرفيق فلاديمير لينين آنذاك -بعد قراءة واقعه- أن المشاركة في برلمانات السلطة الرجعية ضرورة لا بد منها لإيصال صوت حزب الطبقة العاملة لعموم الشعب الروسي.. لذا فقد يكون تمسك بعض قوى "اليسار الأردني" بالكلاسيكيات هو ما دفعها لـ "حمل الشمسية" في عمان بعد 95 سنة مضت على شتاء موسكو !!

قد يبدو هذا السيناريو غريبا بعض الشيء، ولكنه يحقق لتلك الأحزاب تأويلات أكثر إقناعا لمواقفها السياسية من تلك التي تحتملها السيناريوهات الأخرى، وخاصة في ظل التراجع المرعب لحضور اليسار وتأثيره في الشارع الأردني، حيث تتزايد نسبة المواطنين -ولا داعي للاختلاف على حجمها- الذين باتوا يؤمنون بأن الأحزاب الكلاسيكية تضع المصالح الشخصية لأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية في مقدمة أولوياتها، وإن كان ذلك مناقضا لمقتضيات المصلحة الوطنيّة.

لكن المراهقة السياسية التي تختلط بهذا الموقف الانتهازي، تتمثل في ضيق المساحة الزمنية التي سيتمتع بها قادة بعض الأحزاب اليسارية والقوميّة بمنافع و"مناقب" عضوية البرلمان.. حيث أن المشاركة -وإن كانت ديكوريّة- في مجلس صنع القرارات المرتقبة كفيل بأن ينهي وجود هذه الأحزاب من الشارع بعد تجريدها من قواعدها الشابّة، التي بدأت تشعر بالسخط على قرارات قياداتها و"تكفر" بجدوى النضال الداخلي في ظلّ المركزيّة منقوصة الديمقراطيّة التي تستند إليها الأحزاب الكلاسيكيّة.

انعتاق الأسعار من كافة ضوابط الدولة، وتغيير معالم الدولة ذاتها ورسم مصيرها عبر القرارات المرتبطة بالتطورات الإقليمية، قد يكون أقل ما ينتظر الشعب الأردني بعد الانتهاء من صنع برلمان حكومة الظل، غير أن عشق المنصب دفع بالكثيرين إلى اتخاذ قرار بالانتحار السياسي، وإعادة رسم ملامح "فاوست" -بطل الكاتب الألماني غوتة- على مسرح السياسة الأردنية.

أما الأحزاب القومية واليسارية التي اختارت البقاء في الشارع لصنع التغيير، فهي ما بات يصعب فهم لغزها بعد تخليها عن الحراك، سواء في الوقت الذي كان فيه ثمانية عشر ناشطا من نشطاء الحراك يقبعون في السجون، أو في الوقت الذي بدأ فيه رئيس الوزراء -الذي أتقن تقمص شخصية "فاوست"- يمهد لـ "فك تجميد" قرار رفع الأسعار.

شعارات المسيرات التي انطلقت بعد صلاة الجمعة في معان والكرك والطفيلة والرصيفة وإربد وجرش، حملت رسالة مباشرة للسلطة، مفادها أن قرار رفع الأسعار سيؤدي إلى ثورة شعبيّة في حال اتخاذه، ورغم ما تتضمنه هذه الرسالة من أبجديات الفكر اليساري، إلا أن اليسار اختار الغياب عن كافة فعاليات الجمعة التي شهدت مشاركة الاسلاميين !!

قد يتذرع أحدهم بتكتيك سياسي يهدف إلى تفويت الفرصة على كل من يحاول الصيد في الماء العكر عبر استغلال تاريخ 9- 11 الدامي لمهاجمة فعاليات الجمعة، ويقول إن القوى التقليديّة اختارت الابتعاد عن تنظيم أية فعالية بهذا اليوم -خاصة في عمان- غير أن هذه الحجة من الصعب أن تجد طريقها إلى أذهان الناس، لاسيما وأنه كان بإمكان قوى التخوّف من التأويل أن تشارك في الفعاليات التي شهدتها المحافظات للتعبير عن نبض الشارع الرازح تحت وطأة الفقر والبطالة، وأن تنظم فعالياتها قبل يوم الجمعة أو بعده.

التخلي عن الخطاب اليساري والقومي مقابل مقعد نيابيّ، والتعامل مع النصّ اللينينيّ على أنه خطاب مقدّس ينبغي تطبيقه بحرفيّته والمشاركة في صنع برلمان حكومة الظل، أمر يمكن تفسيره، غير أن الغرابة التي تهيمن على قرارات وتكتيكات بعض قوى المعارضة، هي ما يصعب إدراكه.

الغرابة التي اتسمت بها مواقف بعض الأحزاب السياسيّة، إضافة إلى انتهازيّة بعضها الآخر، في ظل التراجع المرعب لدور وحضور اليسار في الشارع الأردني، هو ما يزيد من صعوبة هذه المرحلة بالغة الحساسيّة، خاصة في ظلّ "ثنائية الاسلاميين والسلطة".. غير أن هناك من يصرّ على اتخاذ قرارات لا يعلم أحد آليّات صنعها، ونذكر من بعض المواقف كيف قرّر احد الأحزاب الهروب إلى الأمام وتنظيم فعاليّة لمناهضة اتفاقيّة وادي عربة، في الوقت الذي توحد فيه الحراك الشعبي بكافة أطيافه على شعار المطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي, وقد برّر هذا الحزب موقفه آنذاك بخطورة معاهدة وادي عربة على واقع ومستقبل الوطن، إلا أنه تناسى خطورة المشروع الصهيوني عندما اقتصرت مشاركته في اعتصام الخميس أمام السفارة الفلسطينيّة على عضوين من مكتبه الشبابي، فربما لم يجد ما يكفي من الخطورة في تصريحات محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينيّة، الذي أعلن التنازل عن حق العودة، او فيما أشار إليه "أبو اللطف" رئيس الدائرة السياسيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، حول عودة سيناريو "الإلحاق" الذي قد يقود إلى تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة على حساب الأردن !!

توحيد الجهد، وتبني قضايا وهموم الشارع، والمبادرة الطليعية، هي ما ميّزت القوى الشعبية التي بدأت تطرح نفسها بقوّة، بعد تخلي القوى المنظمة عن دورها وخطابها، فحراك "أحرار حيّ الطفايلة" -على سبيل المثال لا الحصر- بادر بالتصدي للخطاب الهادف لتمرير مشروع الوطن البديل، وأعلن عن تنظيم مسيرة بعنوان "حق العودة مقدس" مساء الثلاثاء.. وذلك بعد أن عبّر عن نبض الشارع ونظّم العديد من المسيرات الاحتجاجية لمناهضة توجهات رفع الأسعار.. ولم يتذرع هذا الحراك بتاريخ 9-11 للغياب تماما عن الشارع كما فعلت بعض القوى المنظمة، بل نظّم مسيرته قبل هذا التاريخ، ومازال يمارس دوره الطليعيّ الذي لم يتراجع زخمه إثر الاعتقال السياسي أو مختلف محاولات الترغيب والترهيب.

ورغم ضرورة وجود القوى المنظمة لقيادة الحراك الشعبي، إلا أن تخليها عن دورها لن يحدّ من زخم الحراك، بل على العكس من ذلك، سيكون لغيابها نتائج لا ترغب السلطة بتجسدها على أرض الواقع، خاصة فيما يتعلق بالسقف السياسي والخطوط الحمراء، حيث تصرّ القوى الشعبيّة على الدفاع عن مطالب الشارع، في الوقت الذي بلغ فيه تذمر الأغلبيّة الصامتة درجة تفتح الباب واسعا على كافة الاحتمالات.

وفي نهاية الأمر، لن تصبّ محاولة السلطة لتدجين الأحزاب السياسيّة في مصلحة أي من الطرفين، كما أن قرار رفع الأسعار سيشكل -في حال اتخاذه- المنعطف الذي سيتمكن فيه الحراك الشعبي من قيادة الشارع نحو تحقيق أقصى مطالبة، ولكن يبقى توحيد الجهد والعمل المشترك، هو كلمة السرّ لنجاح قوى الحراك الشعبي في تحقيق أهدافها.

تابعو الأردن 24 على google news