"أمن الدولة".. واجترار التجارب اليائسة في حضرة القلق
ذات تشرين.. استقبل رئيس الوزراء د. عبدالله النسور نشطاء الحراك الثمانية عشر -الذين تمّ تكفيلهم- في دار الرئاسة، في محاولة للانتصار لذاته واستعادة جزء من كينونته التي وهبها ثمنا لمنصب أرادته له حكومة الظلّ.. ولكن بعد محاولة مكشوفة لكسر إرادة المعتقلين والمؤيدين لهم خارج السجون عبر المماطلة بإجراءات إخلاء السبيل، وخلق حالة من القلق لتصوير المشهد على أنه ترقّب يائس لمكرمة طال انتظارها.
والمشهد يكرّر نفسه اليوم، وكأنّ الرسالة التي صدحت بها حناجر المعتقلين الثمانية عشر أمام رئاسة الوزراء لم تصل حتى الآن.. بل إن حكومة الظل التي تماطل بتكفيل معتقلي هبة تشرين، بعد صدور قرار إخلاء سبيلهم، لا ترغب بقراءة الواقع الذي جسّده من تمّ اعتقالهم سابقا بالعودة إلى الشارع والانخراط مجددا في الحراك الشعبي بعزيمة أكثر توهجا.
السلطة التي تحاول إعادة رسم ذات المشهد أمام محكمة أمن الدولة، حيث يعتصم أهالي المعتقلين بانتظار تكفيل أبنائهم، قد تتجنّب هذه المرّة إخلاء سبيل المعتقلين دفعة واحدة، وقد لا يتم استقبالهم في دار الرئاسة كما حصل سابقا مع رفاق دربهم، غير أن هذا لا يخفي حقيقة المخاوف التي تحمل السلطة على محاولة تصوير القضية على أنها مجرّد انتظار للإفراج عن عدد من الفتية، عبر مكرمة أو كرم حاتمي، وتجاهل المسألة الرئيسيّة التي من أجلها تعرّض هؤلاء النشطاء للاعتقال، والتي ستدفعهم إلى النزول مرة أخرى للشارع ومواصلة الحراك حتى تحقيق كافة المطالب الشعبية باستعادة السلطة واجتثاث الفساد.
هل من المعقول أن تصرّ حكومة الظلّ على تجاهل هذه المسألة البديهيّة ؟ أم أن لحمّى الاستعلاء هذه القدرة العجيبة على تحديد خطوات دوائر صناعة القرار وفق مساحات ضيّقة تتكرّر في كلّ مشهد ؟!! ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ؟ ما الذي يرمي إليه المركز الأمني السياسي عبر تكرار مشهد (الاعتقال السياسي- الترقب- إخلاء السبيل- الاعتقال مجددا) ؟؟
في فترة الأحكام العرفيّة ساد ما يعرف بـ "الاعتقال الاحترازي"، حيث كانت السلطة آنذاك تعتقل كافة النشطاء السياسيين قبل الإقبال على أية مرحلة تخيّم عليها توقعات بانفجار غضبة شعبيّة، وذلك في محاولة لإقصاء القوى السياسيّة عن الشارع ومنعها من قيادته لتحقيق أهدافه.. غير ان هذه السياسية لم تفلح في منع انفجار هبّة نيسان في العام 1989، التي حملت السلطة على إلغاء مرحلة الأحكام العرفيّة برمّتها.
واليوم يتكرّر ذات السيناريو.. حيث ألصقت السلطة بمعظم نشطاء الحراك الشعبي تهما قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، ولا يعني تكفيل هؤلاء النشطاء او إخلاء سبيلهم أنه تمّ إسقاط التهم الموجّهة ضدّهم، فرغم الوعد الذي تقدّم به رئيس الوزراء بطيّ ملفات القضايا للنشطاء الثمانية عشر، إلا أن عددا منهم تسلّم لوائح اتهام تضمنت عقوبة "تقويض مكرّر لنظام الحكم" !!
ولا يعني هذا الأمر إلا شيئا واحدا، وهو محاولة خلق المبرّر "القانوني" لإعادة كافة النشطاء إلى السجون والمعتقلات، في أية لحظة تتوقع فيها السلطة انفجار هبة شعبية، إثر قراراتها المنحازة ضد المواطن.. الأمر الذي لا يختلف عن سياسة الاعتقال الاحترازي، والتي أثبتت فشلها قبل 23 عاما.
وليس تكرار التجارب الفاشلة هو فقط ما يقوّض نتائج سياسات المركز الأمني السياسي، بل الحقيقة التي يتجاهلها صنّاع القرار، تعبّر عنها صورة تمّ التقاطها في إحدى مسيرات هبّة تشرين، حيث يظهر في تلك الصورة عدد من النشطاء الذين أحاطوا بإحدى المؤسسات لحمايتها من المتظاهرين الغاضبين.. فالكلّ يعلم أن نشطاء الحراك وقفوا بشدّة ضدّ أي مظهر من مظاهر التخريب أو الاعتداء على المؤسّسات العامّة، وبذلوا جهدهم للحفاظ على سلميّة الحراك.. امّا إذا ما تمّ إقصاء شباب الحراك عن الشارع، والإلقاء بهم داخل السجون "احترازيّا" خلال المرحلة المقبلة، والتي من المتوقع أن تشهد هبّة شعبيّة لن تقف عند حدود هبّة تشرين، فإن جموع المواطنين الغاضبة لن تجد من يمتلك الخبرة السياسيّة الكافية لقيادتها وتنظيمها، خاصّة بعد كلّ ما بذلته السلطة من جهد لإضعاف وإقصاء القوى السياسيّة المنظمة.
هبّة تشرين لم يفجّرها أحد المعتقلين، ولا تستطيع أي جهة سياسية الادعاء بأنها تمتلك القدرة على تفجير الثورات بعصا سحريّة، بل إن قرار محاصرة المواطن في لقمة عيشه هو ما فجّر الهبّة، وما تحاول السلطة تجاهله هو ان المواطن الذي لن يجد في المرحلة المقبلة ما يطفئ به جوع أبنائه، لن ينتظر فادي مسامرة أو عبدالله محادين أو غيرهما من النشطاء ليخبره بأن عليه النزول إلى الشارع.. ما يعني أنّ محاولة إقصاء النشطاء عبر تقييدهم باتهامات تقويض النظام ومناهضته، لتبرير اعتقالهم مجدّدا في أيّة لحظة، لن يقود إلا لترك الشارع مكشوفا أمام غضبة شعبيّة لا تمتلك أية سلطة القدرة على مواجهتها.
تنظيم الحراك الشعبي والحفاظ على سلميّته كان ومازال يحتلّ الأولويّة القصوى لدى نشطاء الحراك، الذين لن تنجح سياسة الاعتقال بثنيهم عن مواصلة مسيرة تحرير الوطن من الفساد واستعادة السلطة للشعب، فسواء تمّ الإفراج عنهم اليوم أو غدا أو بعد أسبوع، فإن هذا لن يغيّر شيئا من واقع المشهد السياسي، وأمام هذه المعطيات، فإن السلطة لا تملك إلا أنّ تسلّم بواقع الأمر، حتى وإن حاولت الظهور بمظهر المنتصر عبر المماطلة بإجراءات الإفراج عن المعتقلين.. إلا أن القلق الذي يخيّم على المطبخ السياسي يفوق بكثير تلك الحالة التي يجسّدها انتظار أهالي المعتقلين أمام محكمة أمن الدولة.