دولة مدنية يحبها الله ورسوله..
سامر حيدر المجالي
جو 24 :
دعونا نتفق على هذه النقطة؛ إن كنت ترى أن الكيفية التي تُدار بها بلادنا هي ممّا يرضي الله ورسوله فخير لك أن لا تكمل قراءة هذا المقال لأن محتواه لا يعنيك أبدا....
أما بعد؛ فالدولة ضرورة إنسانية تخرج المجتمع من ظلمات الفوضى إلى نور النظام، ومن جور البغي إلى سعة العدالة. إنها تحفظ مصالح الناس ومعاشهم وتضمن لهم كرامتهم، فتجعلهم سواسية كأسنان المشط؛ لهم نفس الفرص وعليهم الجهد وتحقيق الإنجاز.
والدولة تجمع بين كونها ضرورة وكونها وطنا؛ أي أنها حق قانوني ووجداني لكل من كان جزءا منها وتحققت فيه صفات الانتماء. إن حضور الوجدان واقترانه بالضرورة، يخلق إشكالية كبيرة لأنه يجمع بين ما هو عاطفي وما هو عملي. والعواطف دائما محل لبس ولا يمكن الحكم عليها. والعملي من الدولة هو سبب وجودها. لذلك كان على الدولة أن تمارس حيادها في الجانبين، فحيادها أمام العاطفة حياد قانوني سالب يقوم على صمت يقوده حسن النوايا وتوسم الخير في مواطنيها، فلا يحضر القانون فيه إلا حين تنتهك العاطفة بدليل دامغ، كالخيانة العظمى أو إثارة الفتن. فلا أمزجة تستبق الأحداث لتقرر من ينتمي ومن لا ينتمي، ولا شعارات مزعجة لا نعرف صدق قائلها من كذبه. أولئك الذين يمارسون الإقصاء ويركبون الشعارات ويتشدقون بمفهوم خاص عن الوطنية أو يحتكرون فهم الله هم ألد أعداء الدولة لأنهم تجسيد للأنانية والاستكبار على حساب آخرين يشاركونهم نفس الانتماء، وربما كانوا في أغلب الحالات أصحاب مصلحة شخصية تحقق مآربها باستنزاف الدولة ماديا ومعنويا.
أما حيادها العملي فحياد قانوني إيجابي، تعتصم فيه الدولة بلوائح قانونية فاعلة تمارس على الجميع بمنتهى الحياد، في كل لحظة وعند كل نشاط. إن هذين الحيادين أمام العاطفة والواقع العملي يضمنان تكافؤ الفرص، وهما لب المفهوم السياسي الذي نسميه "مواطنة".
والتشريع قضية شائكة لأنه محل الصراع بين ما هو وجداني وما هو عملي. إن نظرت إلى دول في حالة الانهيار (لا داعي لذكر أمثلة هنا) فرض عليك عقلك وقلبك أن تسائل نظامها الإداري عن جدواه، ووجب عليك أن تهرع إلى ما يمكن قياسه كي تحدد مكمن الخلل. ستناقش الميزانيات والمصاريف والضرائب وأشياء من هذا القبيل كي تكون على بينة. لكن ما يحدث في أغلب الحالات أن هذا النوع من الدول يهرع إلى منطقة العاطفة كي يغطي فضائح الجانب الآخر. قلنا أن العاطفة محل لبس ولا يمكن قياسها، لذلك يصبح الدين والعشيرة والطائفة والمؤامرة والعدو نقاط ارتكاز يصرف بها الفاشلون نظرك عن حقيقة الخيبة.
فما هو دور التشريع إذن وما هو نوعه؟ إن إدارة الدولة تشبه في جانب منها إدارة شركة مساهمة؛ ففيها جانب بشري، وآخر تقني، والثالث حسابي. الإدارة التقنية والحسابية لا تعترف إلا بلغة الواقع، من أرقام ومعطيات تكنولوجية. الإدارة بهذا المعنى عمل دنيوي ينهل من التجربة البشرية ويتطور كلما تراكم العلم واغتنت الخبرة. أما الإدارة البشرية فتقوم على التحفيز وحسن الاختيار وملامسة جوانب الإبداع في موظفيها. ربما صار باستطاعتنا أن نقول، أن تشريعا لا يتجدد سيدمر الدولة على رؤوس أهلها. وتشريعا لا يقوم على نظام رقابي سيجعل الدولة لقمة سائغة في أفواه الفاسدين. وتشريعا لا يكون الشعب مصدره ولا يرضي رغباته الوجدانية هو تشريع فوضوي يقود إلى الكوارث.
هنا يحضر سؤال الشريعة بجوانب التجديد والرقابة والمصدر. إن تحول الشريعة إلى كهانة وحصر الكلام باسمها بيد زمرة من علماء السلطان يجعلها عامل جمود يحمي الفاسدين ويرسخ الاستبداد. التشدق بحكم الشريعة ليس سهلا لأنه أدى في أغلب الحالات التي نعرفها إلى ترسيخ حالة الظلم وارتداد الأمة حضاريا. ثم إن الشريعة لم تكن إلا رؤية فقهية محدودة بالزمان والمكان وبإكراهات السلطة وأمزجة رجال الدين. هذا كله ألقى بها في منطقة الذي لا يمكن قياسه فانطفأ نور الدولة وعمَّ الاستبداد.
حضور الشريعة في الدولة يتطلب منها أن تتجدد، أي أن تعم الفقه بأصوله وفروعه ثورة شاملة تتشابك خلالها العقول بحصيلتها المعرفية في القرن الحادي والعشرين. الفقه ليس شيئا واحدا لأنها عمل عقول تمثل كل درجات الطيف، ونحن منذ ألف عام واقفون عند درجة واحدة من درجات الطيف. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن الشريعة عادت لتكون نتاجا بشريا، دنيويا، يقوم على حق الاستنباط والتأويل وترجيح المصلحة والبحث عن مكامن الجمال. هي بذلك ليست قواعد نهائية؛ إنها عقلي وعقلك، وحقي وحقك، يتحاوران ويتفقان ضمن الإطار الذي يجمعنا كلنا؛ في دولتنا كمسلمين ومسيحيين وعرب وشركس وأرمن وفلاحين وأهل مدن وعشائر. أي أنها عمل مدني، مثله مثل باقي مصادر التشريع الأخرى، غير أنه مضبوط بكليات لا يختلف عليها أحد هي حفظ العقل والمال والنسل والعرض والدين. إن الذين يريدون الشريعة أو يقصونها يقعون في خطأ فادح حين يحصرونها بما اتفق عليه الأولون، كأنما هي صنم إمّا أن يـُحطَّم أو يبقى جاثما فوق الصدور.
الشريعة المتجددة شريعة مدنية تخدم دولة الدنيا ولا تقف حارسا على النوايا. إنها مفتوحة على كل الاحتمالات ما دامت لا تمس المقاصد الأساسية. ثم إنها تخلق من تلقاء ذاتها وسائلها الرقابية المدنية، المحكومة بنصوص التشريع نفسه، وهي في النهاية جزء من سلطة الأمة متجاوزة تلك السذاجة التي تجد تعارضا بين سلطة الله وسلطة خليفته الإنسان.
إن سر خلق الإنسان هو النماء والإبداع. الكون ظاهرة تتفجر باستمرار وعقل الإنسان حكم على الأشياء. هذا هو معنى التفويض والخلافة ومحل الكرامة. أن تختار طريقك بنفسك وتواجه متاعبك بحكمتك وتصل بمجتمعك إلى بر الأمان. تلك هي شريعة الله، وتلك هي دولة العدالة التي يحبها الله ورسوله....