jo24_banner
jo24_banner

الاشتباك

سامر حيدر المجالي
جو 24 : الجامعات مناطق احتكاك مباشر، لعدد كبير من الناس، معظمهم في سن الشباب، دون وجود ضوابط رادعة. تلك هي الأسباب الظاهرة لعنف الجامعات الذي تفاقم في الفترة الأخيرة، وشكّل ردّة استمدت وجودها وعوامل نموها من المخزون الثقافي القديم الكامن كما هو في وجدان الأجيال...

نحن إذاً أمام نوعين من الأسباب؛ الأول حاضر واقعي ملموس (الاحتكاك، العدد الكبير، الشباب، غياب الضوابط الرادعة)، وهذا النوع له علاقة بالأداء الإداري ومناهج التخطيط والسياسات العامة للدولة. والثاني ذاتي متوارٍ ذو صلة بالتنشئة والعادات والتوقعات (المخزون الثقافي الكامن والعصي على التغيير).

لكن، هل تكفي هذه التفسيرات؟؟

في أيام التسعينات كانت الظاهرة موجودة لكنْ بشكل محدود في الكم والنوع والأطراف المشاركة. لم تنضج في ذلك الوقت بعد عوامل الاشتباك الحاصل الآن. كان الأداء الإداري في الجامعات على درجة من الكفاءة تضمن له حدا أدنى من ضبط المسار. وكان للدولة هيبة، وللمستقبل معنى، وللطموح مسارات آمنة. أما اليوم فلعل الأمر مختلف، واختلافه هذا هو الذي أوجد الاشتباك الحاصل بين كل المتضادات في مجتمعنا، بين العشيرة والعشيرة، والمنطقة والمنطقة، والطائفة والطائفة، وما سوى ذلك من عوامل التعدد التي انقلبت عوامل تنافر وبغضاء واقتتال.

لماذا هو مختلف؟ هذا هو السؤال الجوهري. وهل يبرر الفشل الإداري وضعف الدولة انطلاق الهمجية من عقالها؟ الفوضى والتخريب والتكسير وتحطيم الذات؟ يُهدَم العقل في صروح العلم، وتنتهك هيبة الدولة من الذين حملوها على أكتافهم، وتُثار النعرات بين أهل البيت الواحد. ظاهرة العنف تجسدها الجامعات التي هي الحضن الجامع لجيل الشباب في الأردن. وهذا الجيل يعاني من فراغ رهيب، خصوصا في المناطق النائية، حيث التنمية والتطوير في حدودها الدنيا، وحيث العشائر مفتتة، والكبار من أبنائها لاهون في مصالحهم وامتيازاتهم. لا شيء يُمكن بناؤه في الذات حين تُفرغ هذه الذات من كل معنى عميق. لا العلم يفعل شيئا، والدليل أن جامعاتنا هي بؤرة التوتر، ولا الوطنية الفارغة المخادعة تصنع بديلا. الشيء الوحيد المتوفر هو الغريزة والعصبية والنعرة، وهذه لدينا منها الكثير، وحدث ولا حرج...

إنه الاشتباك الأهم، اشتباك الأزمنة والقناعات، والحاضر بالماضي، تراث الأجداد والقبائل بالحداثة والعلم والمدنية. وهو اشتباك لا داعي له حين تكون الأمور على خير ما يرام. هناك ضعف في مفهوم الدولة وضعف في أجهزتها، يغذيه حالة من عدم الثقة ومن الفساد وضعف وازع المسؤولية. هذه كلها تؤدي إلى هذا الاشتباك الرهيب، ثقافيا ووجدانيا وعاطفيا وغريزيا. تتصارع الذات الواحدة فتنزع إلى ما هو آمن وأسلم، إلى ما يحقق المعنى، إما إلى الحاضر والمدنية، وإما إلى الماضي وثقافة الغزو والسلب، فإن تغلّب النوع الثاني كانت النتيجة ردة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا هو الحاصل الآن...

نحن ننهل كل شيء من أنفسنا فلا داعي لتزكيتها، وحين نرتد فإننا نعبر عن شكل الردة الذي يناسبنا ويجسد فهمنا للعالم. ردة تبدأ بأضعف النقاط فتنخرها قبل أن تنتقل إلى غيرها. والعشائر هي الحلقة الأضعف بما في تكوينها من عصبية ومنطق نزاع إلى التمرد، وبما في علاقتها مع الدولة أساسا من التحام وشعور بالتملك، وبما في القوانين من انفصام يتنازل فيه القانون المدني عن بعض حقوقه للقانون العشائري الذي يناسب بعض الأشياء ولا يناسبها كلها بطبيعة الحال. وأمام حالة كهذه لا بد من حلول عاجلة، لا بد من ميثاق عشائري ينهض به المثقفون من أبناء العشائر فيعيد تعريف العشائرية ويحدد نقاط الفصل والالتقاء التي تحكم علاقتها بالدولة. ولا بد للدولة كذلك من فرض هيبة قوانينها وتغليب الحق الشخصي والعام على كل حق سواه بالطرق القانونية المدنية التي تطبقها جميع الدول. ولا بد من فسحة حقيقية من الديمقراطية واجتثاث أساليب التمثيل البرلمانية الهزيلة القائمة على إذكاء النعرات الجهوية والعشائرية والطائفية.

ولا بد بموازاة هذا كله من ثورة في التعليم، تطال الأساليب والمناهج وترفع من شأن المعلم ومن مستواه المعيشي. نحن لسنا بحاجة إلى مبادرات فارغة من المضمون، فالثقافة غير العلم، والفكر ليس حشوا للمعلومات في الرؤوس. لا بد من زرع ثقافة الاختلاف، وإدراج الآخر في مفهوم حياتنا، فالآخر هو النور الذي يشكلك، هو ظهورك إلى الوجود واكتمال معناك وبروزك. لا تبنى الحضارة إلا على هذا المعنى، ولا تنهض الأوطان إلا بالندية والتكامل. نحن نجابه الآخر برغبة التدمير لأننا مدمرون وليس لنا مرآة نرى فيها أنفسنا غير مرآة العصبيات الجاهلية.

بديل هذا كله هو الفشل التام، فحين تقطع كفرد أو جماعة مرحلة من الزمن في مسار معين، ثم تقرر أن تتخلى عن مسارك هذا وتعود إلى عالمك القديم، فأنت فاشل، ومسارك الذي كنت فيه مسار فاشل، وعلاقتك بالعالم من حولك علاقة فاشلة. أما المسؤولية فتتحملها أنت بالدرجة الأولى، ويتحملها المحيط الذي ضمك بالدرجة الثانية. لعلك تكون ضحية؛ لكن العالم لا يستوعب الضحايا ولا يقيم لهم وزنا ولا ينظر إلى آلامهم...

من أنت أيها الفاشل؟ هل أنت الفرد المُبتَلَع، أم العشيرة الهائجة، أم الدولة المترنحة؟ أم أنت ثلاثتهم جميعا؟ أم أنت البشرية كلها التي انقلبت في عصر ما بعد الحداثة إلى بئر مظلم من الهويات وذعر وجودي لا يطاق...

كل شيء وارد، والمسؤولية مشتركة، ودم شبابنا في رقابنا جميعا...
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير