من البستان إلى KG1
سامر حيدر المجالي
جو 24 : يستعد أطفالي لحفلة نهاية السنة الدراسية، بقي عليها يوم واحد، به يقطعون الخطوة الأولى من مسيرة تعلم تستهلك جزءا كبيرا من أعمارنا، إن لم تستهلكها كلها...
ولأنهم في عمر الزهور، ويملأون الدنيا حيوية وجمالا، فقد صرت خاضعا معهم لقانون الفعل ورد الفعل؛ ففيما أجعلهم يكبرون يجعلونني أصغر، وحين أمارس عليهم بأسا قويا يمارسون عليَّ بأسا لطيفا ناعما، فيجذبونني وأجذبهم، ويؤثرون فيَّ كما أؤثر فيهم، وتبقى موازين القوى متعادلة، والحياة ناضرة، والمعنى مختزنا في وجود لا نملك إلا أن نقف أمامه منبهرين....
حفلتهم ليست شيئا عاديا بالنسبة لي، لانهم يأخذونني باستعداداتهم لها وبرقصاتهم البريئة التي أتقنوها جيدا، يأخذونني إلى حيث كنت صغيرا مثلهم. وبغير إرادتي وبالبأس الناعم وظمأ روحي، أعود إلى مدرستي، إلى دير اللاتين في الهاشمي الشمالي، في قلب عمان، فيمتزج المكان بالزمان، المكان الجميل العزيز الطاهر بالطفولة النقية والشقاوة العذبة والأحلام الوردية، والبستان الذي هو بستان فيه من أجمل الزهور وأعطرها...
لكن الفارق أنني أعود وقدماي ملتصقتان بشرفة الأربعين؛ أي أنني أتذكر تذكرا من نوع خاص، تذكرا ما إن يغمسك في حلاوة تلك الأيام حتى ينتزعك منها ويعيدك إلى مجاهل أربعينك. يهوي بك من شاهق الطفولة إلى قعر الواقع الذي نسميه خبرة وحنكة. وبالمناسبة هاتان الكلمتان (الخبرة والحنكة) تشيران فقط إلى قدرة الإنسان على تجنب آلام الحياة إذ تترصد بكل خطوة من خطواته، واستطاعته أن يستفيد من تجارب أيامه الطويلة التي عاين فيها الخسة والبشاعة وجها لوجه.
لذلك تصبح الذكريات عذاب من فارق الجنة إلى الجحيم، مع بقاء الجنة ماثلة أمام وجهه بصفاء ألوانها ورقة أصواتها ونقاء روائحها...
وثمة ما هو أصعب من ذلك؛ أنك قطعتَ مرحلة بين زمنين استثنائيين، زمن جميل وزمن بغيض، وكنتَ شاهدا على تغير في الإنسان سبب له مزيدا من التعاسة والانكفاء. تقف على شرفتك البهية في أربعينك الواثقة محوطا ببشرية نازفة وهويات متصارعة ودقائق خفية تتحكم في أدق تفاصيلنا، فتضخمها وتكسوها بالخوف والجزع وتحولنا إلى خلايا متنافرة لا تطمئن إحداها إلى الأخرى، ولا تقدر على العيش معها عيشا بشريا نافعا...
في دير اللاتين كان المكان سخيا بالمحبة. كنا أطفالا مسلمين ومسيحيين، ومعلمات مسلمات ومسيحيات، ومديرا رائعا هو (أبونا) نعوم كرادشة. ومجموعة من الراهبات النقيات السابحات في ردائهن الأبيض، بعضهن عربيات وبعضهن أوروبيات يتحدثن العربية بطلاقة. أذكر واحدة منهن أسمها (سيربلونا)، جاءت من إيطاليا لتخدم الرب في الهاشمي الشمالي. كانت قاسية وعطوفة في آن واحد، نحبها ونخشاها ونثق بها كما نثق بأمهاتنا اللاتي ولدننا. أذكر أنني أهديتها بطاقة معايدة في أحد أعياد المسيحيين فغمرتها السعادة وقالت لي: سأحتفظ بها إلى نهاية العمر. كانت أمي أطال الله عمرها هي التي اشترت البطاقة وطلبت مني أن أقدمها لسيربلونا. ومن المفارقات الجميلة ذات المغزى العميق أن أمي أعطتني البطاقة بينما كانت تُسبّح على سجادة صلاتها بعد أن أنهت صلاة الظهر أو العصر، أعطتني إياها فسلمتها لسيربلونا في اليوم التالي. ولا بد أن سيربلونا اليوم بعد ثلاثين عاما ما زالت تحتفظ بالبطاقة، وإن كنت أجهل الأرض التي تخدم ربها تحتها الآن....
ما مغزى أن تكون إحدى محطات طفولتي هي دير اللاتين، وأن أفارقها بعد ذلك إلى زمن ما بعد الحداثة، زمن الهويات القاتلة وصراع الحضارات ونهاية التاريخ والحروب الطائفية والمذابح العشائرية؟ هل المغزى أن أتحدث الآن بقلب يعصره الألم على طفولتي وعلى سقوط البشرية بعد طفولتي؟ يألم الناس لفقدان الماضي بينما يألم جيلنا لفقدان الماضي وفقدان الروح والاطمئنان معه. نبحث عن شيء يخرجنا من ذعرنا الوجودي فنستسلم أمام خطية التاريخ، ثم لا نجد حضنا آمنا سوى انتماءاتنا المجهرية، الصغيرة والعقيمة.
ما عاد الشر حكرا على طائفة بعينها ولا جماعة دون أخرى، الشر عام، قاس وعربيد. يقودك إلى أبشع ما فيك لأنك تخوض صراع بقاء لا عقل فيه ولا ضمير...
أذكر شيئا قرأته لصحفية لبنانية لامعة اسمها لينا طبارة، كانت نصف فلسطينية ونصف لبنانية، وربما نصف مسلمة ونصف مسيحية، فلما اشتدت الحرب الأهلية في لبنان كان ضميرها يشجب الحرب التي قامت ومبدأها. غير أنها مع سيل الدماء التي جرت وتكرار المذابح والقتل على الهوية، وجدت نفسها تنكفيء نحو أحد الطرفين المتصارعين. وما عاد همها الحق أو الباطل، بل همها أن تبقى وأسرتها على قيد الحياة. اختارت الهوية الصغيرة لأن من حقها أن تدافع عن وجودها في عالم يحكمه الغل ويُدعس فيه العقل بالدبابات.
نحن اليوم نكاد نصل إلى ما وصلت إليه لينا، نختار ما نكره لأن البشر لا يقدمون لانفسهم ما يحبون. وأشفق على أطفالي إذ أراهم يخطون نحو عالم معتم، لا ذنب لهم فيه سوى أنهم ورثوه عن آبائهم.
هل ثمة أمل؟ لا بد أنه هناك، ولا بد أن الزمن الذي شهد دير اللاتين كان هو الأصل، وما زمننا هذا سوى استثناء غادر...
اهنأوا يا أحبتي بحفلتكم، وأتمنى حين تكبرون أن تحنوا لطفولتكم فقط دون أن تتحسروا على شكل عالم الكبار ومضمونه...
Samhm111@hotmail.com
ولأنهم في عمر الزهور، ويملأون الدنيا حيوية وجمالا، فقد صرت خاضعا معهم لقانون الفعل ورد الفعل؛ ففيما أجعلهم يكبرون يجعلونني أصغر، وحين أمارس عليهم بأسا قويا يمارسون عليَّ بأسا لطيفا ناعما، فيجذبونني وأجذبهم، ويؤثرون فيَّ كما أؤثر فيهم، وتبقى موازين القوى متعادلة، والحياة ناضرة، والمعنى مختزنا في وجود لا نملك إلا أن نقف أمامه منبهرين....
حفلتهم ليست شيئا عاديا بالنسبة لي، لانهم يأخذونني باستعداداتهم لها وبرقصاتهم البريئة التي أتقنوها جيدا، يأخذونني إلى حيث كنت صغيرا مثلهم. وبغير إرادتي وبالبأس الناعم وظمأ روحي، أعود إلى مدرستي، إلى دير اللاتين في الهاشمي الشمالي، في قلب عمان، فيمتزج المكان بالزمان، المكان الجميل العزيز الطاهر بالطفولة النقية والشقاوة العذبة والأحلام الوردية، والبستان الذي هو بستان فيه من أجمل الزهور وأعطرها...
لكن الفارق أنني أعود وقدماي ملتصقتان بشرفة الأربعين؛ أي أنني أتذكر تذكرا من نوع خاص، تذكرا ما إن يغمسك في حلاوة تلك الأيام حتى ينتزعك منها ويعيدك إلى مجاهل أربعينك. يهوي بك من شاهق الطفولة إلى قعر الواقع الذي نسميه خبرة وحنكة. وبالمناسبة هاتان الكلمتان (الخبرة والحنكة) تشيران فقط إلى قدرة الإنسان على تجنب آلام الحياة إذ تترصد بكل خطوة من خطواته، واستطاعته أن يستفيد من تجارب أيامه الطويلة التي عاين فيها الخسة والبشاعة وجها لوجه.
لذلك تصبح الذكريات عذاب من فارق الجنة إلى الجحيم، مع بقاء الجنة ماثلة أمام وجهه بصفاء ألوانها ورقة أصواتها ونقاء روائحها...
وثمة ما هو أصعب من ذلك؛ أنك قطعتَ مرحلة بين زمنين استثنائيين، زمن جميل وزمن بغيض، وكنتَ شاهدا على تغير في الإنسان سبب له مزيدا من التعاسة والانكفاء. تقف على شرفتك البهية في أربعينك الواثقة محوطا ببشرية نازفة وهويات متصارعة ودقائق خفية تتحكم في أدق تفاصيلنا، فتضخمها وتكسوها بالخوف والجزع وتحولنا إلى خلايا متنافرة لا تطمئن إحداها إلى الأخرى، ولا تقدر على العيش معها عيشا بشريا نافعا...
في دير اللاتين كان المكان سخيا بالمحبة. كنا أطفالا مسلمين ومسيحيين، ومعلمات مسلمات ومسيحيات، ومديرا رائعا هو (أبونا) نعوم كرادشة. ومجموعة من الراهبات النقيات السابحات في ردائهن الأبيض، بعضهن عربيات وبعضهن أوروبيات يتحدثن العربية بطلاقة. أذكر واحدة منهن أسمها (سيربلونا)، جاءت من إيطاليا لتخدم الرب في الهاشمي الشمالي. كانت قاسية وعطوفة في آن واحد، نحبها ونخشاها ونثق بها كما نثق بأمهاتنا اللاتي ولدننا. أذكر أنني أهديتها بطاقة معايدة في أحد أعياد المسيحيين فغمرتها السعادة وقالت لي: سأحتفظ بها إلى نهاية العمر. كانت أمي أطال الله عمرها هي التي اشترت البطاقة وطلبت مني أن أقدمها لسيربلونا. ومن المفارقات الجميلة ذات المغزى العميق أن أمي أعطتني البطاقة بينما كانت تُسبّح على سجادة صلاتها بعد أن أنهت صلاة الظهر أو العصر، أعطتني إياها فسلمتها لسيربلونا في اليوم التالي. ولا بد أن سيربلونا اليوم بعد ثلاثين عاما ما زالت تحتفظ بالبطاقة، وإن كنت أجهل الأرض التي تخدم ربها تحتها الآن....
ما مغزى أن تكون إحدى محطات طفولتي هي دير اللاتين، وأن أفارقها بعد ذلك إلى زمن ما بعد الحداثة، زمن الهويات القاتلة وصراع الحضارات ونهاية التاريخ والحروب الطائفية والمذابح العشائرية؟ هل المغزى أن أتحدث الآن بقلب يعصره الألم على طفولتي وعلى سقوط البشرية بعد طفولتي؟ يألم الناس لفقدان الماضي بينما يألم جيلنا لفقدان الماضي وفقدان الروح والاطمئنان معه. نبحث عن شيء يخرجنا من ذعرنا الوجودي فنستسلم أمام خطية التاريخ، ثم لا نجد حضنا آمنا سوى انتماءاتنا المجهرية، الصغيرة والعقيمة.
ما عاد الشر حكرا على طائفة بعينها ولا جماعة دون أخرى، الشر عام، قاس وعربيد. يقودك إلى أبشع ما فيك لأنك تخوض صراع بقاء لا عقل فيه ولا ضمير...
أذكر شيئا قرأته لصحفية لبنانية لامعة اسمها لينا طبارة، كانت نصف فلسطينية ونصف لبنانية، وربما نصف مسلمة ونصف مسيحية، فلما اشتدت الحرب الأهلية في لبنان كان ضميرها يشجب الحرب التي قامت ومبدأها. غير أنها مع سيل الدماء التي جرت وتكرار المذابح والقتل على الهوية، وجدت نفسها تنكفيء نحو أحد الطرفين المتصارعين. وما عاد همها الحق أو الباطل، بل همها أن تبقى وأسرتها على قيد الحياة. اختارت الهوية الصغيرة لأن من حقها أن تدافع عن وجودها في عالم يحكمه الغل ويُدعس فيه العقل بالدبابات.
نحن اليوم نكاد نصل إلى ما وصلت إليه لينا، نختار ما نكره لأن البشر لا يقدمون لانفسهم ما يحبون. وأشفق على أطفالي إذ أراهم يخطون نحو عالم معتم، لا ذنب لهم فيه سوى أنهم ورثوه عن آبائهم.
هل ثمة أمل؟ لا بد أنه هناك، ولا بد أن الزمن الذي شهد دير اللاتين كان هو الأصل، وما زمننا هذا سوى استثناء غادر...
اهنأوا يا أحبتي بحفلتكم، وأتمنى حين تكبرون أن تحنوا لطفولتكم فقط دون أن تتحسروا على شكل عالم الكبار ومضمونه...
Samhm111@hotmail.com