jo24_banner
jo24_banner

كآبة بدوية

سامر حيدر المجالي
جو 24 : صدري ضيّقٌ هذه الليلة كأنني بدوي ألقوه في معتقل.....
متى تغادر أيها المثالي العتيق وتصفح عن السقطات والسهوات والغباوات والنوايا السافلة؟ متى تفهم أن الأشياء لا تُدرَك كاملة، وأن البشر كرماء إلا في شيئين؛ شهواتهم وأمن نفوسهم. وأنهم إنما يعطون ليأخذوا مقابلا للعطاء. ومقابلُ العطاء هذا تحدده القوة والسيطرة، لا العدالة والحق....
منذ سبعة آلاف عام قرر الناس أن يحموا أنفسهم من شر أنفسهم. فقد تناهبوا الماء فمات الضعفا عطشاً، وغزوا محاصيل جيرانهم فمات جوعا من لم يستطع الدفاع عن قوت أولاده. عندئذ قرروا أن قوة ما عليها أن تضطلع بتنظيم الأمور كي تضمن استتباب الأمور. والحقيقة أنهم لم يكونوا شغوفين بالتنظيم نفسه ولم يكن في وارد أحدهم شيئا عن فكرة الإدارة، هم كانوا يسعون إلى أمنهم فقط؛ الأمن الاقتصادي والأمن البيولوجي....
فاخترعوا فكرة السلطة؛ أي أن يكون هناك مجموعة من الأشخاص الممنوحين فائضاً من قوة السلاح وسطوة العرف فيسيّرون الأمور بما يضمن سلامة الجميع ويمنع الاعتداء ويفض الخصومات....
ولأنهم مخوّلون ولديهم سلطة كان حكمهم جاريا على كل الناس، من أجل ذلك صاروا حكاما. وصار لديهم عسس وجيش ومخبرون. أما العسس والجيش فأغلبهم من لصوص عهد ما قبل الدولة؛ ذلك أن احتواءهم وضمان أرزاقهم خطة في غاية الذكاء. فهم؛ أي اللصوص، يفرغون طاقات عنفهم من ناحية، ويضمنون رزقا معلوما إلى آخر عمرهم من ناحية ثانية. وأكثرهم فوق ذلك ذوو فكر بليد، فلا خطر يُخشى منهم ما دامت فروجهم وبطونهم آخذة نصيبها الوافر. وأما المخبرون فأغلبهم من أصحاب الحظ القليل في المهارات اليدوية، فهم بلا مهن ولا مستقبل واضح. وإنما كان هذا الطريق طريقهم الوحيد كي يُغدَق عليهم عطاء جزل يضمن لهم أن لا ينحطوا إلى أدنى مراتب المجتمع....
وهكذا نشأت الدولة فكرة عبقرية وحاجة إنسانية ملحة. لكنها كانت مشوبة دائما بالنقص؛ ذلك أنها جهد بشري، والوجود البشري قائم على النقص. فخضعت العلاقة بين الحكام ومحكوميهم إلى جدلية الأخذ والعطاء، وكان من الطبيعي أن يحدد قوانين ومقادير الأخذ والعطاء من لديه القوة والجبروت والهيلمان....
وابن آدم لا يشبع، فظهر الاستبداد، وتحول الحاكم إلى حوت يبتلع الأخضر واليابس ليجود على الناس بأمنهم ولا شيء غيره. ومن يستطيع أن يردعه وكل شيء بين يديه، وسيوف عسكره مشهرة وولاؤهم له مضمون؟؟
أما الناس فقد رضوا بذلك، واختلطت لديهم مشاعر الهلع الوجودي بمشاعر تقديس القوة. ودخل الدين في صلب الموضوع فأضاف إلى قدسية الحكام قدسية جديدة، متعالية وغير مفهومة ولا يمكن اثباتها أو نفيها. صار الحاكم ظل الله على الأرض، وبات عصيانه تمردا على الله قبل أن يكون تمردا على الدولة....
دعونا نختصر الكلام فما عدنا بحاجة إلى مزيد من التلميح والتصريح. إن قال لكم أحد الفلاسفة أن الطبيعة البشرية طيبة ومسالمة فاعلموا أن هذا الفيلسوف لم يحلل التاريخ ولا الإنسان جيدا حتى لو كان اسمه ضخما بحجم اسم جان جاك روسو... الناس مجبولون على الطمع والعنف والجبن، والدولة ألجمتهم فقط وضمنت لهم أن لا يموتوا جوعا. غير أن البشر الأذكياء الذين تحرروا من سطوة الآلهة البشرية استطاعوا أن يرتقوا بفكرة الدولة قليلا فعدّلوا نسب الأخذ والعطاء بالتدريج حتى وصلوا إلى نسبة متوازنة يكسب فيها الجميع معا أو يخسرون معا...
أما عندنا فما زالت الدولة هي هي؛ لم تتعدل منذ أيام نبوخذ نصر. الناس يعطون الحاكم كل شيء فيعيشون أصفارا ويموتون أصفارا، ويرضون بهذه القسمة كل الرضى، مقابل أمنهم وفتات موائدهم وبعض الشهوات التي تمارس في الظلمة...
إنهم راضون بذلك كل الرضا، بل إنهم يفتخرون بذلك ويسمونه وطنية وقومية. ومحاججتهم في ذلك لا تورث صاحبها إلا الكمد والكآبة.
والبدوي ذو الصدر الضيق يظل يابس الرأس مهما مكث تحت الاعتقال. لذلك ليس لديه خيار آخر؛ فطريقك يا ولدي كمد وكآبة وكمد وكآبة.....
مساؤكم كآبة الأحرار.....
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير