jo24_banner
jo24_banner

اليقين

سامر حيدر المجالي
جو 24 : منذ زمن بعيد كنتُ فيه مادة ليّنة قرأت تحفة الإمام ابن القيم " مدارج السالكين" وكان ثمة حديث شيق عن اليقين...

أذكر أشياء فهمتها بطريقتي الخاصة؛ منها أن اليقين مناعة ضد تقلبات الدهر، ومكاشفة لا يرى فيها العبد شيئا إلا وهو إبداع من إبداعات الله جل في علاه. وأن الأحداث تجري لتحقيق غايات مخصوصة أرادتها الحكمة العلية. وأن استشعار هيمنة الله وإحاطته بشؤون الخلق كبيرها وصغيرها يثمر في العبد الموقن قدرة فذة على الصبر، ويترفع به عن الاستسلام للأغيار، فلا يرى فضلا إلا فضل المنعم الكريم، ولا يخشى إلا من بيده مقاليد النفع والضر.

المهم، أن منزلة اليقين بما فيها من عبودية خالصة وتوكل محض، قد أثرت في تكويني النفسي حتى هذا اليوم. وأزاحت عن عينيَّ غشاوة أحمد الله وأرجوه أن يبقي أثرها عليّ حتى ألقاه. وقد بقي اليقين في داخلي فكرة نظرية، جميلة وجذابة، حتى تعرضتُ لاختبار يقيني قاس، فوجدتني أهرع في ضعفي وقلة حيلتي إلى من هو أهل لليقين، فلم يكن من وسيلة غيرها، ولا امتلكت من الزاد إلا أن أجلو يقيني وأجمع خواطري الشاردة، وأحولها إلى حوار ودعاء واستعطاف بيني وبين الله عز وجل. فعبرت القنطرة الضيقة، وفزت بما هو فوق مرادي، وتعدت نسبة النجاح مئة بالمئة.

واليقين ليس فيه ما هو دون العلامة الكاملة، والذي فوقها مزيد، وقد نعمت بالمطلوب ومزيد...
ومضت تلك التجربة الشخصية التي لن أخوض في تفاصيلها لأن سريتها شرط من شروط اليقين. ومضت الأيام جميلة حتى جاء الاختبار اليقيني الثاني الذي أعيشه الآن. وهو في هذه المرة ليس شأنا شخصيا بحتا، وإنما هو أمر عام يشغل بال الناس كلهم، لكنه مع ذلك اختبار قاس من اختبارات اليقين والثقة والعبودية...

ما زال أهلنا في سوريا يتعرضون للذبح والتنكيل والقصف والاغتصاب وأحط مراتب الجرائم التي عرفها التاريخ. منذ أكثر من عامين وهم يواجهون أراذل البشر وشياطين الخليقة. يقتلون بأعتى الأسلحة وأكثرها تطورا، يقاومون الشر مجسدا، وتتكالب عليهم مع عدوهم أمم الأرض وأشقاء الدم. تمضي بهم الحرب إلى مجهول قد يكون فيه فناؤهم واستئصالهم وخراب ديارهم. إنها معركة رهيبة، سلاحهم فيها الإيمان بحقهم وقولتهم "يا الله ما النا غيرك يا الله"...

هذه المعركة اختبار يقيني على أعلى الدرجات من الشفافية، فهناك ظلم وهناك رب لا يقبل الظلم، وهناك مؤامرات وقوى عظمى ومكر بشري، وهناك رب ذو تدابير خفية لا تخطيء مقاصدها. هناك قلوب تعلقت بأسباب القوة المادية وصارت تنتظر ما يقرره الأمريكان والروس في اجتماعاتهم، وهناك القوي العزيز الذي يقول للشيء كن فيكون. هذا صراع الأزل الذي لُقّناه ونحن صغار فلما كبرنا تبعثرنا في دروب الحياة، ونسينا أهم مباديء الوجود وأشعها وأصفاها.

عامان وأكثر، قد يكونان قليلين على اختبار يقين صادق، لكني أبشركم أن اليقين يقوى كلما تطاولت الأيام، وأن من أراد أن يقيس منزلته في مراتب اليقين، فهذا هو المقياس الحقيقي الذي لن تكون نسبة نجاحه أقل من مئة بالمئة... ولدينا مزيد.

ملاحظة: لم أقل الكلام السابق لأزكي نفسي، وإنما لأشحذ اليقين عند من في قلبه بقية منه...
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير