jo24_banner
jo24_banner

رابعة أم المساكين

سامر حيدر المجالي
جو 24 :

لعله استشراف، ولعله بعض من أضغاث الأحلام...

حين انتشر شعار رابعة العدوية في عواصم العالم رُمي الذين ابتدعوه بتهمة خطيرة، هي تدويل الأزمة وإخراجها من نطاقها المصري الخالص...

على كل حال، ليس التدويل عيبا في حد ذاته، لكننا نراه أقل شأنا من حقيقة رفع هذا الشعار في أماكن كثيرة. فالتدويل يحمل معنى سياسيا وظيفيا، وقد تقف وراءه غايات شريفة أو غير شريفة، وقد يؤيدوه مضطرون يعيشون آخر رمق، وقد يعاديه مرضى نفسيون، يتخذون من رفضه، ومن الجعجعة، وتوهم الاستقلال، والتعويل على جيش منهك مخترق، يتخذون من هذه الأشياء كلها وسيلة لتعويض النقص الحاصل في نفوسهم إذ يدركون تمام الإدراك، أن جيشهم أداة في يد مستعمر، وأنه لم يقدم خلال ستين عاما إلا نكسات وهزائم، وأن قادته خونة، وأفراده لا حول لهم ولا قوة.

والتعويض يكون بطحن الكلام، واستحضار المعاني الشريفة ونسبتها إلى من ليس للشرف أهل. وهم يقصدون بذلك النكاية، ثم يبحثون عن خيط واه يلم شتات عالمهم الركامي، فيلجأون إلى هذا المعنى بالذات، معنى ممانعة الشر والاستقلال والسيادة ليبرروا للجيش غشامته وسوء ما اقترف.

هؤلاء ليسوا موضوعنا لأن الأفق الذي نتحدث عنه مختلف تماما، وفي شعار رابعة ما ينقلنا من معنى التدويل إلى معنى الأنسنة التي حملت هذا الشعار على صدور أقوام آخرين، فجسدوا معناها وجوهر حقيقتها. وما حقيقة هذه الأنسنة إلا أنها حب الخير وتّعَشُّق الجمال وكره البغي ورفض الظالمين.

الأنسنة عابرة للزمان والمكان، ولو نظر أحدنا إلى البلدان كلها من حيث تشرق الشمس إلى حيث تغرب لهاله هذا المعنى العظيم الذي يحمله في صدورهم من لم يتلوثوا بمطامع سياسة ولم يردهم عن شعورهم النبيل رصاص بندقية أو جنزير مدرعة.

انظروا إلى الأصفر والأحمر والأبيض، إلى فلاح أندونيسي أو عامل باكستاني أو بحار إفريقي أو صحفي أوروبي؛ انظروا إليهم جميعا كيف خرجوا بفطرة نقية هاتفين ضد الظلم والظالمين، مدافعين عن حق إخوتهم في الحرية والكرامة، وما حركهم إلا شعور نبيل يوم رأوا الأشلاء والدهس والتنكيل، فأدركوا بقلوبهم قبل عيونهم وجه الحق من الباطل.

هذا درس الحاضر المعاش والجغرافية المرئية، غير أن درس التاريخ أبلغ إذ عاد واستحضر بعض مكنوناته فوهبها الحياة، وأكّد لنا أن المعاني أبدية، والبشر الذين يحملونها أبديون كذلك...

هل سأل أحدنا نفسه: ما الذي أحيا رابعة العدوية من جديد؟؟ تلك الشريفة العفيفة التي اختصرت أبعاد الإنسان في تجربتها؛ فمن منتهى الضلال إلى أسمى آفاق العشق الإلهي. رابعة البغدادية القادمة من القرن الثاني الهجري تُبعَث كما هي، معنى متساميا خلاقا، فالروح مسك والسيرة عنبر والقلب آفاق بلا حدود.

رابعة ما زالت تغني "أحبك حبين"كي نفهم بعضا من أسرار الروح البشرية، ونتخذ من الإيحاء الرمزي نورا يدلنا على الطريق؛ رابعة هي "أم المساكين" هذا هو اللقب الذي التصق بها منذ قرون طويلة، ولعل الإيحاء هنا واضح، والرمز غني بالدلالات.

لقد عشقت رابعة فسمت وآن لنا أن نعشق فنسمو. والعشق أمل والأمل يبعث على العطاء. رابعة تتربع بشذى روحها فوق عواصم الكرة الأرضية، فيسمو بطهرها من عرفها ومن لم يعرفها. رابعة صارت قيمة عالمية، تراثا إنسانيا حقيقيا، مستوى جديدا يأخذنا إلى شكل جديد من أشكال الحضارة والأداء البشري. مستوى يختلف عما سبق اختلاف الطفرة عن العادي السائد الممل. مستوى لا يتعلق بالروحانيات تعلق العاجز المتواني، ولا ينغمس في الماديات انغماس الشهواني الشره.

مستوى تحضر فيه الأخلاق والعشق والجمال، وتنتعش فيه روح الدين لا مجرد أحكامه ومحاذيره. مستوى ما زلنا دونه قلوبا وعقولا، غير أن أم المساكين تدشن لنا مسارا في هذا الطريق المثالي والبديع...

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير