فساد الثقافة السياسية , ونتائجها
إن عملية تحديث المجتمع تتم بفضل السياسة التي تسيطر على قطاعات المجتمع . وعندما أفسح المجال لرأس المال الخاص حتى يمارس دوره كبديل للقطاع العام أو كسند له ؛ أدى ذلك إلى بروز نخبة اقتصادية اتحدت مع النخبة السياسية ليشكلا معاً ماسميناه بطبقة السلطة .
ان اتحاد النخبتين كان متوقعاً بل هو أقرب لأن يكون من طبائع الأمور في مثل هذه الحالة .
لقد كانت النخبة الاقتصادية قابلة للاستخدام من قبل النخبة السياسية وقد صارت كذلك بعد اتحادهما معاً , نظراً لتشابك المصالح والدور الوظيفي الإقتصادي الذي يمكن أن تقوم به هذه النخبة لصالح الطبقة السياسية.
ففي المجتمع الأردني على سبيل المثال عمل كثير من الرموز الاقتصادية كواجهات اقتصادية تعمل ليس لصالحها فحسب , بل لصالح النخبة السياسية . وبالعكس ظهرت هناك نخب سياسية نشطت سياسياً لصالح النخبة الاقتصادية , وذلك بتسهيل حصول هذه النخبة على الكثير من المكاسب والمشروعات بل وصياغة التشريعات الداعمة لهذا التوجه المنحاز لصالح تلك النخبة . ومن الطبيعي أن يكون لتلك النخب السياسية نصيب من المكاسب المتحققة للنخبة الاقتصادية نتيجة لتلك الاجراءات والتسهيلات التشريعية والواقعية الإجرائية , حيث حاز الكثيرون من النخبة السياسية ثروات كبيرة باستغلال مراكزهم السياسية ودورهم في صناعة القرار .
لقد واكب ذلك في المجتمع الأردني عملية نشطة في مجال صناعة الثقافة التي تستهدف وعي أفراد المجتمع وتجنيدهم وفق المسار المرغوب فيه . و يتمظهر هذا المسار في إشاعة وغرس ما يمكن أن نسميه "بقدرية الواقع" , بمعنى أن الواقع المعاش هو قدر لا مفر للأفراد منه . وكل ما عليهم عمله هو العمل باستمرار على التكيف مع هذا الواقع والخضوع له . وقد جندت طبقة السلطة لإنجاز هذا ا لنمط الثقافي المصطنع كل وسائل الإعلام دون استثناء المقروءة منها والمرئية والمسموعة , علاوة على الاستعراضات المسرحية وغيرها من أدوات التعبير الفني والتواصل الاجتماعي .
لقد تمظهرت المخرجات الثقافية لهذه السياسة باندماج و تماهي مضلل يكاد أن يكون كاملاً بين ما هو شخصي وما هو وطني . فالوطني حتى وان كان أغنية أو قصيدة أو مقالة ....الخ . هو ما يمجد الطبقة السياسية ويعظم انجازاتها , وإن لم يتطرق إلى الموضوع الوطني أو الصالح الوطني لا من قريب ولا من بعيد . كما أن الانحياز العقائدي لكي يكون وطنياً لا مناص أمامه من أن يكون لصالح الواقع السياسي القائم والخضوع له , على أن يظهر ذلك بوضوح عبر أساليب التعبير اللفظية والشفهية منها والمكتوبة .
إن صناعة الثقافة على الساحة الأردنية التي عملت ضمن هذه السياقات يعبر عنها بأنها ثقافة نكوصية أو أنها نكوصية ايحائية , بمعنى انها تطرح الواقع المعاش كنموذج ينبغي عدم تجاوزه أو التطلع إلى تجاوزه لا بالقول ولا بالفعل . إن مثل هذه الثقافة تعني الحكم على المجتمع بالجمود وعدم التطور .
إن الثقافة بهذا المفهوم ومن هذا المنظور قد تم (تسليعها) في المجتمع الأردني , أي إنها انتجت لكي تكون سلعة لها استخداماتها الموجهة ومردود محسوب . وقد أدت هذا الدور بفاعلية , وتكيفت فئات الشعب مع هذا الواقع . فصارت أداة فعالة في تحقيق التكامل الإجتماعي وآلية إنتاج وإعادة إنتاج السكون أو الجمود الإجتماعي .
من هذا المنظور صارت هذه الثقافة (المسلّعة) وكأنها سلعة لا تخدم زبائنها بل تقوم هي بإخضاعهم لها , بحيث يغدو أي فعل باتجاه معارضة هذه الثقافة أو رفض التكيف معها لا يفهم ألا انه فعل مشبوه يصنف الفاعل على أنه يتمتع بشخصية غير موالية بل ومعادية . وهذه صفة تعرض الفاعل صاحب هذا الفعل لشكل من أشكال العنف التي قد تكون شديدة وبالغة الخطورة كما هو الحال في بعض المجتمعات العربية كالمجتمع السوري والمجتمع العراقي تحت حكم الحزب الواحد . و ربما يكون هذا العنف أقل قسوة كما هو الحال في المجتمع الأردني إذا ما سلم من العقوبات الخشنة المباشرة . حيث جرت العادة في هذا المجتمع أن يعاقب من يصنف على إنه غير موالي سياسياً ولو بالشبهة , بأساليب تميل إلى النعومة المؤلمة كالتهميش والاقصاء أو التجاهل أوتحطيم السمعة , أو بالعمل على تقريب شخصيات معروفة لديه أقل شأناً منه وكفاءة , وذلك بدفع هذه الشخصيات إلى الصفوف الأولى , وإعلاء مكانتهم بحيث يتساوون في ذلك أو يزيدون بنظر العامة عن مكانة ذلك الشخص المعارض , في مجتمعه المحلي , لكي تلحق به أذى نفسياً واجتماعيا بأسلوب غير مباشر .
ولا يقتصر اتحاد مصالح النخب السياسية والاقتصادية على المظهر المادي الذي تمثل بتكوين الثروات , والحيازات العقارية , بل تعدى ذلك إلى الاتحاد المعنوي والتضامن الوجداني المتمثل بالدعم المتبادل العلني وغر العلني بين هذه النخب .
وقد ظهر ذلك جلياً بعد اندلاع الحراك الشعبي المطالب بالاصلاح ومكافحة الفساد , حيث ساد شعور عام بأن مكانة تلك النخب السياسية والاقتصادية قد تضررت معنوياً جراء ما شاع عن الفساد ورموز الفساد بعد أن فتحت ملفات الفساد . فكان لابد من إجراء سياسي لتدعيم مكانة تلك النخب طالما أن الأمور ما زالت في إطار الشبهة وغياب الدليل القاطع والإثبات اليقيني .
وكمثال واضح على مثل هذا الدعم يمكن أن نعد هنا ما قام به رأس الدولة من الاجتماع برؤساء الحكومات السابقين بتاريخ 8-1-2012 وكان قد سبقه باجتماع مع النخبة الاقتصادية وقادة الاقتصاد التقليديين , وذلك بتاريخ 5-1-2012 والاعلان عن هذه الاجتماعات أو اللقاءات ونشرها.
إن اجتماع رأس الدولة بهذه النخب قد يُفهم على أن مكانة هذه النخب ما زالت محفوظة , وينبغي أن تظل بعيدة عن الشبهة , لأنها ما زالت قريبة من رأس الدولة .
إن ذلك قد حدث رغم ما اشيع وما يشاع بين الأوساط الشعبية والنخبوية الثقافية عن احتمال أن يكون الكثيرين من هؤلاء المسؤولين السابقين , علاقة بكثير من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها المجتمع الأردني , وتسببت في اندلاع الحراك الشعبي في نهاية المطاف وأشهرها مشكلة الفساد الإداري والمالي , وتشكيل طبقة مترفة ومتعالية على الناس ومعزولة عنهم .
إن لقاء رأس الدولة بتلك النخب علاوة على انه مؤشر على موقف التزامي أخلاقي من رأس الدولة تجاه هذه النخب التي اعتادت على القول في السنوات الأخيرة , بأنها لا تعمل إلا بناء على توجيهات رأس الدولة من جهة , فهو من جهة أخرى قد يحمل رسالة إلى فئات الشعب بأن تماسك هذا الاتحاد السياسي الاقتصادي غير قابل للإختراق أو الضعف , بصرف النظر عما يحدث في المجتمع الأردني وما يطالب به الحراك الشعبي . لكن من جهة ثالثة فإن ما صدر عن رأس الدولة من تصريح بأن لا أحد فوق القانون حتى وإن كان ابنه , يحمل رسالة موجهة الى الطرفين , النخب السياسية والاقتصادية التي أدارت المراحل السابقة لشؤون الدولة , من جهة , وفئات الشعب من جهة أخرى , تقول بوضوح و صراحة بأن ليس هناك دعم من رأس الدولة لأحد إذا ما ثبت خطأه بصرف النظر عن أية مزاعم قد تصدر من أي طرف بهذا الخصوص لتبرير موقفه أو تبرير مبالغته بأوهامه وتصوراته .
إن سلوك النخبة السياسية والنخبة الاقتصادية يشير إلى ثقافة خاصة لطبقة قد تجذر لديها الاعتقاد وتعمق , بأنها صارت تملك المجتمع الأردني ولا تعمل فيه ولخدمته فقط . وأن المطلوب من فئات الشعب الأخرى ان تتكيف مع إلزامات الثقافة الخاصة بها التي تلزمها بالمحافظة على الواقع الاجتماعي القائم وهي ثقافة تمت صياغتها بعناية . كما عليها أن تتكيف مع (سياسة الانتظار) التي مر زمن طويل على تأهيلهم للتكيف معها .
لقد أدى كل ذلك ألى إنتاج وعي جديد لدى فئات الشعب المختلفة صار يحل تدريجياً محل الوعي المؤطر الداعم للجهود والمحافظة . لقد مكن هذا الوعي الجديد الفئات الشعبية من اكتشاف أن تكيفهم مع سياسة الانتظار تحت إغراء الوعود التي غالباً ما تكون غير دقيقة أو غير قابلة للتحقق لأسباب موضوعية أحياناً وغير موضوعية أحياناً أخرى ؛ ما هو الا انتظار إلى الأبد , لأن الغد المشرق الموعود لن يتحقق , والمسألة من أولها إلى آخرها مجرد مناورات سياسية هدفها الأول والأخير أن تدربهم على الصبر والانتظار الذي لا ينتهي إلا الى صبر جديد وانتظار جديد ؛ ما دامت كل ماكنات صناعة الثقافة تعمل لكي يتأبد الوضع القائم . وان الفرص أمام أية رغبة في التغيير أو أي فعل للتغيير قد تضاءلت بل تلاشت كلياً وبالكامل , أو هكذا تشكلت القناعة لدى النخب السياسية والاقتصادية وكافة أدواتها التنفيذية دون استثناء .
إن مثل هذه الظروف وأينما وجدت , تجعل من الدولة أقرب ما تكون إلى اطار , يمثل بالنسبة للأفراد الفاعلين فيه , حياة في جو من الظلم والقمع أو القهر والمعاناة ؛ أكثر منها إطاراً يوفر لهم السعادة , وان الأفراد يتأهلون في هكذا مناخ واطار , كي يفوضوا أمرهم إلى مرجعية بديلة إذا لم تعد الدولة تمثل لهم المرجعية التي يمكّن لهم أن يعيشوا حياتهم فيها بسعادة . وطالما أن الدولة هي القوة العظمى , بحدودها أو بحدود المجتمع , فلا يصير أمام الأفراد إلا اللجوء الى ما هو أقوى منها ليقهرها , فيكون اللجوء الى الله هو الخطوة الأولى على هذا الطريق , يعقبها بعد ذلك اضطرار الأفراد أو فئات الشعب الي أن تعتمد على نفسها مستعينة بالله كي تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة , وترفع من درجة ونوعية مساهمتها ومشاركتها في صناعة مصيرها والتحكم فيه . فإذا نجحت بذلك كان به , وإلا فقد تستعين بقوى خارجية لإنجاز الإصلاح أو التغيير الجذري .
ان حدوث ذلك يكاد أن يكون حتمياً , عندما تتذكر فئات الشعب (إذا ما وجدت من يذكرها ويوقظ وعيها) الملتجئة إلى الله أنها فئات مؤمنة لا يسمح لها ايمانها بالسكوت طويلاً على خطر صار واضحاً , وان الله سبحانه وتعالى لا يدفع الناس إلا بالناس فالآية تقول " فلولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض ...." .
نخلص إلى القول : إن واقع الحال الذي آلت إليه المجتمعات العربية عموماً والمجتمع الأردني على وجه الخصوص , قد وُلد الحاجة لدى فئات الشعب إلى أن تستند الى عقيدتها الدينية كما وُلد لديها القابلية للالتفاف حول من يعبئهم بإسم هذه العقيدة ضماناً لنصرة الله , فيكون المجال قد فتح واسعاً أمام الجماعات الإسلامية , فاقتنصت الفرصة وقامت بالدور أفضل قيام .
لم يكن ذلك كله بسبب دهاء الجماعات الإسلامية ومنطقية خطابها السياسي , بل بسبب أخطاء قاتلة وقعت بها طبقة السلطة في إدارتها للشأن العام السياسي منه والاقتصادي .
لقد تجاهلت طبقة السلطة في المجتمعات العربية عامة والمجتمع الأردني على وجه الخصوص خاصية ثقافية اجتماعية تميز فئات الشعب في المجتمعات المتدينة عموماً وهي إن هذه الفئات إذا ما همّشت واضعفت ووجدت نفسها أمام قوة قاهرة لا طاقة لها بها , التجأت إلى عقيدتها الدينية تستمد منها القوة لمواجهة هذا الواقع , فإذا ما جاء من يخاطبها باسم شريعة الله كوسيلة للخلاص من المأزق اتبعته تلقائياً .
لقد تجسد هذا التجاهل عملياً , عندما قامت طبقة السلطة باحتكار كل أسباب القوة المادية وغير المادية واحتفظت بها لنفسها وحاصرت الفئات الشعبية واضعفتها . لقد أصبحت هذه الطبقة قوة قاهرة بنظر الفئات الشعبية التي تم إقصاؤها عن القرار والمشاركة , ووجدت هذه الفئات نفسها تقف عاجزة أمام جبروت تلك الطبقة فصارت وكأنها قد دفعت دفعاً إلى سلاحها الأخير وهو اللجوء إلى الله أو إلى من يخاطبها باسم شريعته , ولا يوجد غير جماعات الاسلام السياسي من يقوم بذلك , فكانت تلك الجماعات هي الحصن الذي دخلت اليه والتفت حوله الفئات الشعبية بشكل تلقائي أحياناً , وبشكل محسوب أحياناً أخرى .
إن طبقة السلطة ذاتها كانت قد ارتكبت خطأً استراتيجيا آخر , عندما أغلقت باب العمل السياسي أمام فئات الشعب عندما منعت الأحزاب , في الوقت الذي أبقت فيه جماعات الإسلام السياسي الفاعلة الوحيدة في الشارع السياسي لزمن طويل , تحت أسماء أو مظلات حزبية أحياناً واجتماعية تطوعية أحياناً أخرى . فاكتسبت تلك الجماعات ميزتين , ميزة أنها الوحيدة التي سمح لها بالتواجد في الشارع السياسي والتواصل الاجتماعي التعبوي مع الناس , وميزة أنها الوحيدة التي تخاطب الناس باسم شريعة الله , إن ذلك قد يُفسر قوة هذه الجماعات الواضحة مقارنة بغيرها من الجماعات والتنظيمات التي سمح لها بالوجود مؤخراً في المجتمعات العربية .
إن طبقة السلطة لو تصرفت بطريقة مغايرة , وابقت المجال مفتوحاً أمام قوى الشعب الفاعلة سياسياً لأن تعمل بحرية سياسية , لضاق المجال نسبياً أمام جماعات الإسلام السياسي لأن تطرح نفسها على أنها المنقذ الوحيد والسند الوحيد لفئات الشعب كما حدث في المجتمعات العربية التي اندلع فيها الحراك الشعبي المضاد لطبقة السلطة . هذا من جهة ومن جهة أخرى , لو أن طبقة السلطة أيضاً قد تصرفت بطريقة أبقت للفئات الشعبية شيئاً من القوة وعبر آلية ديمقراطية تستطيع هذه الفئات أن تؤثر بواسطتها على طبقة السلطة وتقيد تصرفات ممثليها ؛ لما شعرت هذه الفئات بالضعف وفقدان الحيلة واللجوء مضطرة بعد ذلك إلى سلاحها الأخير الذي تلجأ اليه في حالة الانكسار أمام القوة القاهرة .
إن شعور جماعات الإسلام السياسي بالقهر والانكسار أمام طبقة السلطة القاهرة , دفعها في الماضي إلى العمل السري للخروج من هذا المأزق لأن القوانين كانت تحظر عليها العمل السياسي العلني , لكنها مؤخراً وبعد أن سادت المفاهيم الديمقراطية بدعم وتأييد من المعسكر الغربي الديمقراطي , انتقلت إلى أسلوب العمل العلني , بعد أن صارت القوانين المحلية تسمح بذلك في الكثير من المجتمعات العربية ومنها المجتمع الأردني , وصارت تعبر عن رفضها للواقع السياسي القائم من خلال الاعتصامات والمظاهرات وأخيراً المسيرات التي بدأت تتمأسس لتأخذ طابع الديمومة والاستمرار تحت مصطلح الحراك الاجتماعي , الذي لا يكون استخدامه صحيحاً إلا إذا قصد به فقط انتقال الشعوب العربية من حالة الخضوع والاستكانة إلى حالة الانتفاضة والرفض , لأن الحراك الاجتماعي علمياً هو انتقال من مكانة اجتماعية إلى أخرى مختلفة عنها عبر السلم الاجتماعي "social stratification " فقط .
إن جماعات الإسلام السياسي عبر خطابها السياسي المستند إلى عقيدة دينية لها قداسة خاصة بنفوس المؤمنين , أصبحت تمثل الملاذ لقوى الشعب الأخرى غير المنظمة التي تعاني من الاستبعاد والتهميش والإقصاء , التي تهرع عادة عندما تضيق بها الأحوال إلى الله أو من ينطق باسم شريعة الله.
لقد رتب هذا الواقع على عاتقها مهمة أن تكون عند حسن ظن تلك القوى الشعبية فكان لابد لها من أن تتحرك عندما أُفسح المجال لذلك لمواجهة طبقة السلطة من أجل إصلاح الواقع السياسي القائم بعد أن استقر في قناعة الناس أو غالبيتهم الساحقة أن الإصلاح السياسي يجب أن يأتي أولاً , فإذا ما تحقق صار من السهل تحقيق إصلاح باقي جوانب حياة المجتمع والدولة , فالفأس لا ينبغي أن تصطدم بالصخر أولاً , بل بطبقات التراب والطين اللين إلى أن تصل بالتدريج الى الصخر ؛ بدأ الحراك الشعبي بقيادة جماعات الاسلام السياسي مطالباته في الإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد والقبض على الفاسدين , والسارقين وإعادة المسروقات وغالبيتها مُلكيات عامة, وبالتدريج صعّدت مطالباتها بأن نادت بتغيير بُنية النظام السياسي برُمته بدءاً بتغيير رأس النظام أو تعديل منهجه في الحكم تعديلاً جوهرياً يمُس الكثير من الصلاحيات التي اعتاد أن يمارسها رؤوس الأنظمة السياسية العربية.
ولأن المهمة لم تكن سهلة وفوق طاقة جماعات الإسلام السياسي منفردة , فكان لابد لهذه الجماعات من أن تعتمد على قوة الفئات الشعبية الأخرى التي تحولت نتيجة لاتساع فساد طبقة السلطة إلى قوى معارضة جراء انتشار الفقر والبطالة بين صفوف أبنائها , وصارت في موقف أحوج ما تكون فيه الى اللجوء إلى الله أو إلى من يتحدثون باسم شريعة الله لإخراجهم من هذا المأزق وهم جماعات الإسلام السياسي , فالتقت مصالح الجميع على ضرورة التحرك لتغيير الأوضاع السياسية أولاً , ولكي يكسب هذا الحراك تعاطفاً دولياً كان لابد له إلا أن يبدأ سلمياً بعيداً عن العنف رغم وجود ما يشبه الرأي العام , إن لا بد في نهاية المطاف من الإنزلاق نحو العنف فالأمر مرهون أولاً وأخيراً بمدى استجابة طبقة السلطة للمطالب الشعبية , ومدى هذه الاستجابة . فإذا ما عجزت جماعات الإسلام السياسي ومعها القوى الشعبية الأخرى الداعمة لها في انجاز أهدافها في الإصلاح والتغيير عبر وسائلها السلمية قد لا تجد حرجاً في المرحلة الثانية من اللجوء الى العنف المتصاعد تدريجياً وربما يصل الأمر بها الى حد الاستعانة بالخارج كما حصل في العراق , وليبيا , وما سوف يحصل في سوريا , بالتأكيد وقد لا يكون في ذلك حرج , طالما أن تلك الجماعات تتحدث باسم شريعة الله فليس من الصعب عليها أن تجد سنداً شرعياً من الموروث الديني الإسلامي يجيز لها الاستعانة بالخارج لدفع ظلم الظالمين في الداخل فالله يدفع شر الناس بالناس والجماعات الإسلامية تعرف ذلك جيداً , وعليه فقد لا ترى تلك الجماعات بأساً في الاستعانة بالقوى الخارجية لإنجاز التغيير المطلوب داخلياً .
كل ما سبق يوضح لماذا تصدرت جماعات الإسلام السياسي الحراكات الشعبية العربية, ولماذا يظل تدخل القوى الخارجية لنصرة هذا الحراك , أمراً متوقعاً وفرضية قابلة للتحقيق على أن لا يغيب عن الذهن أن كل هذه التفاعلات في الداخل , وبين الداخل والخارج ما هو في الحساب الأخير إلا تفاعلات تحدث ضمن إدارة المصالح أو المحافظة عليها.








