هموم أردنية (2) الهيزعيات
تساءل أحد الصحفيين البريطانيين وقد رأى الملك عبدالله يهب شخصيا ليساعد مواطن أردني في دفع سيارته وقد غرقت بثلوج الشارع في عمان .. تساءل قائلا : هل يمكن ان نرى ملوك بريطانيا يفعلون مثله ؟ والجواب قطعا بالنفي ، نقولها نحن ، فملوك بريطانيا ولا غيرهم بكل الدول المتقدمة يفعلون هكذا . والسؤال : هل ذلك لترفعهم عن الشعب , بينما نحن في الأردن متضامنون ملكاً وشعب ؟ والجواب لا هذا ولا ذاك لأن الحاجة هي التي تفرض الفعل.
فملوك بريطانيا مثلا من حولهم مسؤولون بريطانيون أكفاء مخلصون أشد الإخلاص لبريطانيا ، فلا يدعون مجالا ولا حاجة لأن ينزل رمز الدولة ليغطي على عجزهم وفشلهم ويذر الرماد في عيون الشعب ليسكت عنهم . إن رمز الدولة الأردنية لو لم يجد ثغرة في الأداء لما شعر بضرورة أن ينزل هو شخصيا الى الشارع ليقوم بما ينبغي ان يقوم به أولئك الذين استقروا على مقاعد المسؤولية في الأردن سنينا طوال، ربما قصد ان يفرح الناس به ، فينسون غضبهم على غيره ويصرف انتباه الناس عنهم، وتقل شحنة الإنفعال والغضب لديهم ، او ربما قصد هذا من أشار به.
على أي حال : إن إضطرار رأس الدولة ورمزها الى النزول لا يقرأه الأردنيون كما توقع المستشارون الأشاوس ( دعاية لملك او ما شابه ذلك من الحسابات التي صارت عتيقة ) بل رأوا فيه حاجة ماسة ربما لمسها الملك لأن يفعل ما فعل بعد أن يئس تماما من قدرة المسؤولين التخطيطيين والتنفيذيين على تمثل توجيهاته اللفظية كما ينبغي ان تنفذ لأنهم كما يبدو يسمعون التوجيهات لكنهم قد لا يفهمونها ، واذا فهموها فلا ينفذونها لغياب الرغبة او التعود على ( ضرب الطناش ) ، أو لأنهم لا يعرفون كيف ينفذونها اذا فهموها لتدني مستوى الكفاءة والتدريب وفي مثل هذه الحالات لا يظل أمام الملك إلا أن ينزل هو شخصيا لكي يرونه كيف يتصرف حتى يتصرفوا مثله بالتقليد ، نظرا لغياب ملكة الإبداع لديهم كما هو شأن الكثير من البشر في المجتمعات المتخلفة ، لقد تكون ما يشبه الحس العام عند الأردنيين ان كفاءة الكثيرين من المسؤولين وللأسف هي كفاءة إعلانية ، دعائية ، موجهة في الأساس كي تجعل حبتهم قبة وفأرهم أسدا .
فما ان ينزلوا الى الميدان نزلة استعراضية تنهال عليهم مذيعاتنا النشميات بالإشادة والمديح وبالألقاب الرنانة ، والثناء النفاقي الى مالا حدود . من مثل هالو معاليك ، اهلين يباشا ، وشو سعادتك ، أهلا بالنشامى ، والله يعطيكوا العافية ... ويلاحقهم مصوروا التلفزة (وهات ) يا صور ( من بوزات مختلفة ) وكأنهم على وشك استرداد ليس فلسطين فحسب بل الأندلس ، والإسكندرونة ، وعربستان ملحق بها جزر سبته ومليله . وكل هذا ينهال عليهم مع انهم لا
يفعلون الا أقل من القليل مما تستوجبه مناصبهم وكراسيهم وآلاف الدنانير وآلاف لترات البنزين المجاني على حساب أمة لا اله الا الله ، وذلك لسياراتهم الفارهة التي لا تغرق في الثلج .
الأصل أن التعامل مع المناسبات المطرية والثلجية هي مهمة البلديات بالدرجة الأولى التي ينبغي ان تكون الواحدة منها قد اشترت على مر السنوات مئات الأليات الخاصة بها لهذه المناسبات , وذلك من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التي تجلبه من جيوب المواطنين على الطالع والنازل . على البلدية ان تقوم هي بفتح شوارع ( مجالها الضريبي ) كله مهما اتسع والا فعليها ان تتنازل عن مناطق لغيرها تكون أكثر كفاءة منها , فالعمل البلدي ليس عملا جبائياً وديوانية عرب للأقارب والأصدقاء من العشيرة نفسها والخلان وآخر الشهر ( هات ) يارواتب ولو لم يكن الإنجاز الا توقيع الإسم .
عليها ان تقوم بفتح الشوارع فتحا حقيقياً لا أن تحدث شقاً في وسط الشارع وتنسف الثلج حول هذا الشق على الجانبين فيضيق الشارع فلا يعود صالحا لسيارتين ولا لمشاة ، فتختنق الشوارع بالسيارات ، وتنغلق مداخل بيوت الناس وكراجاتهم , ولا يطول الأمر حتى ينساح الماء من جانبي الشق الى منتصف الشارع ، فيتجمد ليلًا ليصبح مرور السيارات حتى من الشق محال ، هذا ما جرت عليه عادة الفاتحين الأردنيين طلاب الصور والمديح الفارغ انهم يضاعفون الأزمة ( بطريقة الفتح ) هذه .
أما تدخل الجيش والدرك وقوات الأمن العام ...الخ بحدود معقولة فهذا طيب دون شك , على ان لا يحل الجيش محل البلديات التي تمضي السنة في استنزاف جيوب الناس . على كل حال : إن أكبر الأخطاء من وجهة نظر الكثيرين من الأردنيين التي وقعت بها ادارة الدولة الأردنية هي انتخابات البلديات ، فتلك صارت مسربا ينفذ منه الى رئاسة البلدية وعضويتها أبناء العشائر الكبيرة في مناطق البلديات ، فكان ان عملت الواسطة وانتشر الفساد بحكم البنية القبلية للمجتمع الأردني .
إن هذا الخطأ لا يقل خطورة عن تعيين رؤساء المحاكم وقضاتها من ابناء العشائر الكبيرة التي توجد فيها تلك المحاكم ، لقد صارت البلديات أقرب الى ما يشبه الملكية الخاصة واندية السامر وشرب القهوة صباحا ، وانهيال ساندوشات الفول والفتة ابتداء من الساعة العاشرة صباحا ، وحتى الثانية عشرة حيث تدخل استحقاقات الوضوء فينصرف الكثيرون من مسؤوليها وموظفيها الى ممارسة تلك الإستحقاقات حتى الظهر والناس على شبابيك بلدياتنا العتيدة ، أذلة صاغرون ، نحن كمتخصصين ( وأنا سأتحدث هنا كمختص ) عندما نطرح مقولاتنا حول ضرورة إشراك أبناء المجتمعات المختلفة في الإدارة المحلية والحكم المحلي ...لأنهم أعرف من غيرهم بحاجات مجتمعاتهم ، فتلك نوجهها للمجتمعات المتقدمة نسبياً ، أما في المجتمعات المتخلفة او النامية ، فهذه المقولات تصبح سماً زعافاً قاتلاً للدولة وللمجتمع على حد سواء ووصفة مثالية لتفكيك المجتمع وزعزعة أركانه .
أن منهج مواجهة الأزمات في بلادنا كما لاحظنا لا ينطبق عليه سوى وصف "الهيزعية " وهذه تعقد ولا تحل , تماما كأغانينا التي تحرض على العنف والإنقضاض على الأخر لقلع عينه ، او جعل عظامه (تطقطق ) وما الى ذلك من الترهات ، فما ان تسمع أغنية أردنية حتى تعاني الأمرين كي تمنع نفسك من إمتشاق السيف ومحاولة النزول ولسان حالك يقول مرتعدا "هجموا " مع ان الأصل ان تبعث الأغنية في نفوسنا فرحا لا توترا ولا حماسا فارغا لا ضرورة له.
هذه هي الصورة النمطية العامة the stereo Type ؛ لكن رغم كل شيء فهناك في بلادنا ما يشذ عنها لحسن الحظ . ولله في خلقه شؤون .
** الهيزعية كلمة يطلقها الأردنيون للتعبير عن الفوضى الإستعراضية ..