jo24_banner
jo24_banner

الفاسدون الصادقون

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

كيف يكون الفاسد ، فاسداً وصادقاً في الوقت نفسه ؟ لعلها مفارقةعجيبة ، لكنها حقيقة احياناً؛ وبقليل من التمعن وإدامة النظر والفكر تتضح . فالفاسد – اي فاسد – هو شخصية اردنية ظهر بيننا وعاش بيننا وهو منّا وفينا كما يقال.......أليس كذلك ؟
في لحظة من الزمن ، وجدت هذه الشخصية نفسها وقد أحاط بها اطار او مناخ أو بيئة(سمّه ما شئت) ثقافية واجتماعية ،وموروث من المسلكيات والعادات التي تدفع به الى الفساد دفعاً.... وهذا يعني وكأن الناس صاروا يطالبونه بأن يفسد .... ففسد استجابة لهم ..... ألم نطلب منه التوسّط لناعند حاجتنا للوظائف ؟؟؟ ألم (نعيّر) هذه الشخصية أو تلك ، اذا رفضت التوسط والتحيز بالقول بأنه جبان؟ الا يقول الناس في بلادنا كلها لو كان هذا الفلان من الجهة الفلانية أو العلانية لتوسط لنا بكل جرأة؟!... الا يصغّر الكثيرون منا وجوههم امام هذه الشخصية الفاسدة او تلك وهم يتذللون أمامه كي يحصلو منه على خدمة او توصية ولو على حساب أية مصلحة أخرى بما في ذلك مصالح الوطن ؟؟!! الا يعني ذلك اننا كنا ندفعهم دفعاً الى أن يضربوا بعرض الحائط كل القيم المثلى من عدل ، ونزاهة وحق وشفافية ؟؟
واكثر من ذلك : الا تلاحظون الكثيرين وقد انتفخت اوداجهم بكثرة ما يمطرون هذه الشخصية او تلك بكل ما لذ وطاب من الالقاب ؟ قليلون فقط من يخاطبون الشخصيات الفاسدة بأسمائهم مجردة مسبوقة بسيد فلان فقط. فالأكثرية المتملقة يبدأون بسعادتك،وعطوفتك، ومعاليك ، ودولتك ، وغير ذلك من الالقاب الفارغة من المضمون، تشعرهم بعظمتهم وبدونية المتلكم، مع ان الكل يعلم علم اليقين بما فيهم المتملقون، بأنهم فاسدون أو ربما لصوص؟ حقيقة لا يبوح بها حتى المتملقون الا لأنفسهم وبالسر ؟؟ ماذا يعني ذلك ؟؟ يعني ان الفساد والتحلل الأخلاقي المتمثل بالجبن والنفاق، والتملق ، قد طال حتى القناعات ومنظومة القيم الاجتماعية؟ ثم ماذا يعني مثلاً ، عندما يحول الكثيرون من الناس ذواتهم الى أصفار لا قيمة لها أمام هؤلاء الفاسدين عندما يتباهون بالفاسدين وقد صاروا وكلاء عنهم يُخطّبون بناتهم ويَخْطِبون لأبنائهم، والآباء كالغرباء يتفرجون!! فكأن الأفراح صارت لا تكتمل الا بهم وكذلك الاتراح. فسعيد من يحضر الى عزائه شخصية فاسدة. لقد شاع ما يشبه الاعتقاد لدى الكثيرين من الناس ان مناسباتهم لا تكتمل الا بحضور هؤلاء ودون ذلك يصبحون أصفاراً هم ومناسباتهم بنظر الآخرين، ويراودهم شعور بانهم أهون وأذل من أن يــُــلبى لهم طلب، أو أن يؤخذوا بالاعتبار ؟؟؟ مناخ فاسد عام وطام .... أليس كذلك ؟؟؟
ثم : الا يتباهى الكثيرون بصلة القرابة او الصداقة او الجوار التي تربطهم بهذه الشخصية او تلك ؟ والسؤال : أبْعَدْ كل هذا الهيلمان الذي نُضفيه على الفساد والفاسدين، فكيف بالله عليكم نريدهم ان لا يفسدوا؟؟!!! وقد جلب الفساد لهم كل هذا (الهيلمان) ، والمكانة المتميزة، وأجلسهم فوق رؤوس الناس ؟؟ موضوعياً إنهم أذكى من ذلك ..... ولا بد ان يفسدوا ليفوزوا بكل هذه المغانم منا!!! ففسدوا فكانوا بذلك نبات طبيعي نشأ في بيئته الطبيعية ، ولم يكونوا نشازاً ، ولا نباتاً شيطانياً، فهم من رحم بيئتنا الثقافية والاجتماعية ووليد شرعي لبنية فكرية ما زالت متخلفة لا تزن الأمور بموازين سوية . وهم لم ينزلوا الى ما نزلوا اليه من الفضاء، بل بفعل فاعلين، هم نحن ؛ نحن الشعب ... الذي ما شعر الكثيرون منا بوجوب ان يقولوا لا للخطأ والفساد، وان يترفعوا عن التذلل وان يكونو أعزة بذواتهم وتوجهاتهم. لقد لا حظنا الفساد ، وشجعنا الفاسدين على التمادي فيه بعد ان اعطيناهم كل هذا الاعتبار والتقدير .فصاروا بين خيارين : إما ان يتصرفوا بشرف ولا يلبون مطالب الطالبين فيصيروا مذمومين مدحورين معزولين، جبناء بنظر الناس ، وإما ان يفسدوا ويتجاوبوا مع مطالب الطالبين الفسادية؛ كالتوسط وتقبل الرشوة والغش والتحيز والتحايل على القانون لتمرير الخدمات التحيزية، فيفوزوا بالتقدير الاجتماعي ويُرفعون على الرؤوس ويحاطون بهالة كبيرة ؟ ويحاطون بالكثيرين من المادحين والمسبحين؟ فيصبحوا وقد صاروا هم الارقام الصعبة أينما حلوا وكل الآخرين غيرهم أصفار ؟؟؟!!
إنهم بفسادهم إذن يعكسون بيئتهم بصدق . ومن يعكس هذه البئية ويتجاوب مع قيمها السائدة والضغوطات الفسادية التي تمارس عليه كي يتصرف بطريقة فاسدة؛ ويتصرف فعلاً هكذا ؛ هو الشخص الصادق. بمعنى أنه يُمثٍّل في تصرفاته بيئته بصدق ومن يخالف ذلك ويرفض ان يمتثل لهذه الثقافة الفاسدة، يكون هو الشاذ ، وأنه لا يمثل بيئته تمثيلاً صادقاً هكذا يقول العلم؛ بصرف النظر عن أية أحكام معيارية اخرى تصدر عن نماذج قيمية مثالية لا وجود لها في الواقع .
وعليه : فمع مطالبتنا لهؤلاء (بالصلاح) لا بد ان نحيطهم ببيئة صالحة.... فهل حصل ذلك؟؟؟ في ما سبق الجواب على هذا السؤال : والحل لا يكون الا باعادة النظر ببنية المجتمع ككل، ثقافة واجتماع وسياسة وكأنه لا يوجد دولة، فتكون البداية من الصفر في التأسيس لدولة يكون الناس فيها أعزاء رافضين للذل والتذلل، ويرفضون الفساد والفاسدين. فإذا صارت هذه ثقافة مسيطرة، عندها فقط يكون الاصلاح ممكناً وتصبح الاردن تربة صالحة تنبت مسؤولين صالحين ، فأعزة النفس فقط هم من لا تغريهم مباهج الدنيا كثيراً،فهي مهما كثرت ، تظل أقل شأناً من أن تُضعف نفساً عزيزة . إن خَلقْ العزة بالنفوس بحاجة لحاضنة ينشأ فيها الأفراد ويدربون على العزة والاعتزاز بالذات أولاً وبالوطن ثانياً .... وهذه حلقة مفقودة في مجتمعنا الاردني حتى الآن ، وتشكل عقبة كأداء امام الاصلاحيين المنادين بالاصلاح مع انها شرط ضروري حاسم في هذا المجال .
والبداية هي في بناء اطار جامع للدولة نحرص على أن يكون نظيفاً.ويمثل الدستور الصحيح العادل.... اللبنة الاولى في هذا البناء. فهو الهيكل العظمي لكل دولة وهذا لا يكون الا بهئية وطنية من قادة الفكر والقادة بشتى المجالات، ممن عُرف عنهم الغيرة على الوطن والاعتزاز بالذات، وعدم التملق والتزلف، المشهود لهم بالموضوعية والحياد والنزاهة وسعة الأفق ، الذين لم يشغلوا مناصب متقدمة في البيروقراطية للدولة الاردنية منذ نشأتها والى اليوم ، الا من خالفوا ضغوطات فساد البيئة الفاسدة وتصرفوا كأشراف. هؤلاء يجلسون ويؤسسون لدستور شرعي جديد.
لا بد من بداية عملية غير الكلام والمزاعم الاصلاحية الكاذبة ، فالبلد صارت على حافة الهاوية ليس السياسية فحسب ، بل والاخلاقية أيضاً. ولمن لا يدرك خطورة الأزمة أن يسأل نفسه مثلاً ماذا لو لم يقدم صندوق النقد الدولي قروضاً للاردن؟؟؟ ماذا لو تراجعت الولايات المتحدة عن ضمانها للقروض الأردنية ؟؟؟ ماذا لو تراجعت دول الخليج عن الدفع؟؟؟؟ نحن ومن أداروا البلد نعرف الجواب .وهو ان البلد قد أودي بها (بداهية) اليس كذلك؟؟؟؟ دعونا نطرح عيوبنا هكذا بصراحة وصدق .... فذلك هو المنهج الملائم للخلاص من هذه العيوب .... وبناء الاردن الذي نريد .
وكفى مداهنة ، ونفاقاً ، وتزلفاً، وتسلقاً، و شخصنة وخطابة فارغة، فذاك إن لم يكن هو الخراب بعينه ،فهو الاساس لكل ما نسمية فساداً أو إفساداً ، كمنهج في العمل ينبغي أن يتوقف ، وخلق الاطار الاجتماعي الثقافي الأنقى الذي لا يسمح بعودته مستقبلاً ، وقوامه سلطة تشاركية ديمقراطية ، وشعب عزيز النفس أبيّ يرفض الفساد ولا يُجلُّ الفاسدين ولا يحترمهم .

تابعو الأردن 24 على google news