2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عبد الكريم غرايبة – كما رأيته

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

لن أبدأ عن الراحل الكبير بالكلمة المعتادة " عرفته" بل بعبارة "لم أعرفه" ذلك أنني أُقر بعجزي عن إمكانية الاحاطة بذلك الكل المركب من جملة من الخصائص الشخصية التي تلوح للناظر السطحي وكأنها متناقضة، وأُقر بأني قد تأخرت كثيراً حتى أدركت التكامل الجوهري بين تلك الأضداد التي تجسدت بشخصية الشيخ المعلم البروفيسور عبد الكريم محمود خالد الغرايبة الذي تفرّد بشخصية "خلافية" لا نظير لها على امتداد وطننا الأردني؛ ولأنه كذلك ولكي أتجنب فرض ما أراه على الآخرين فلن أشعر بالحرج إذ أقول بأنني " لم أعرفه" حق المعرفة ،وإنما سأقول فيه ما أظن أنني رأيته فيه من خصال إنسانية وخصال منهجية في نظرته الى التاريخ الانساني وعلاقته بما يجري للناس ،أو يحدث بينهم أو يُفرض عليهم كنتاج للتعامل الحتمي بين مفردات هذا الجنس البشري وجماعاته ونظراته الى معنى إنسانية الانسان ، وكرامة الفرد في هذا الوجود المؤقت .
هو ابن باشا ولم يقل هو يوماً أنه كذلك مع انها مكانة سامية عند سائر الناس سواه؛ لأنه مختلف ، وهو العالم الرصين ولم يتيه يوماً بذلك لا على تلميذ ولا على إنسان. وهو العارف بكل شاردة وواردة في الأردن، لكنه لم يستغل معرفته الموسوعية بالكثير مما يخيف حتى الجبابرة لغايات الابتزاز وتحصيل المكاسب ، لم يكن فحسب نــبّـــاشة(من نبش أو حفر وبحث) وبحاثة ومنساحاً وناقداً وساخراً،ومتردداً ، ورافضاً ،ومتطابقاً متوافقاً ماضوياً ومستقبلياً انساناً عادياً حد البساطة وملاكاً متعالياً حد التسامي .
لقد كان الراحل العظيم كل ذلك معاً – مركّب انساني- معجز وغاية في الابهار، وحتى المفردة من تلك الصفات كان يوظفها بطريقة تختلف من آن لآخر كما تستقر في الذهنية العبقرية، التي لا تستقر على حال ولو لساعات. كان شكّاكاً الى حد اللايقين ، رافضاً لكل شيء غير معقول لمجرد انه متعارف عليه، ناقداً ساخراً الى حد الاغتراب ، هذا ما كان ينضح به لسان حاله إذا ما بدا راوياً لنكتة ، او لحدث تاريخي .
أما التاريخ حقل تخصصه الأكاديمي ، فلا قداسة له بنظره الا إذا كان للاعتبار أو أخذ العبرة والتدقيق بما جرى ، أو يجري ، لا لشيء الا ليعرف الانسان كيف يتصرف البشر كما يتصرفون، وكم من حماقة مضحكة مبكية تنطوي عليها تلك التصرفات ، إنها نظره فلسفية تلك التي شكلت موقفه من الوجود والاشياء والحوادث والاشخاص .كان يجتهد ليتطابق مع الجميع الى حد التقبل والتماهي الظاهري رافضاً للجميع (كمنهاج فكر وعمل ) الى حد الاغتراب والاعتزال على مستوى القناعة والجوهر ، فلا تراه أبداً جزءاً متوافقاً مع مجموعه ، ولا رافضاً لأي مفردة من مفرداتها الانسانية ، وما كان يوماً طرفاً في خصومة وإن خاصم أدخل الخصومة في بوتقة الهزل فيتفتت سمــُّــها، ويغشاها الفرح ؛ليس فرحاً صرفاً بل ذاك النوع المزيج من الدهشة والاستخفاف بالسبب ، لقد تسامى عن الاسباب التي اعتاد العاديون من البشر أن يتخاصموا أو يتنافسوا أو يتقاربوا أو يتنافروا بسببها أو من أجلها الا هو : فلا أي سبب من الاسباب يستحق بنظره، لكنه يعذر غيره ممن يتفاعلون مع الاسباب ويتأثرون بها، لأن الناس بطبيعتهم وبغالبيتهم الساحقة متطابقون مع أي واقع ، طلباً للراحة والمكاسب ففيها الفائدة التي يرون والقيم العليا التي يقدسون الا هو : فلا قيمة عنده الا للحقيقة ولا قداسة الا للمطلق الذي هو الله الذي لا اله الا هو جلّ في علاه وتقدست أسماؤه رب كل النفوس وإليه عائدة طال الزمن أو قصر وكل ما دون ذلك ليس حقيقة بل مجرد وهمُ نيام .
بهذا آمن الراحل وعلى هذه القناعة عاش ، وظل على هذا الحال الى ان انصاع لأمر الآمر الناهي أن يسلّم نفسه اليه إذ أمرها : عودي الى ربك راضية مرضية ، فأطاع وأسلمها اليه مطمئنة راضية مرضية لأنه أمر آمر لا رادّ لأمره ، ولو كان الأمر خلاف ذلك فلربما قاوم. بهذا آمن الشيخ المعلم وعاش حياته كلها غير مأمور أبداً وسيد أينما كان ، إذ لا ينبغي بنظره ان يكون لهي شريك في الأمر على الانسان .
لقد عانى في سبيل ذلك ما عاناه واعتقد الناس أنه مظلوم الا هو؛ فلا شعر يوماً أنه كذلك، فهو لا يرى أهليّة لمخلوق بائس أن يكون ظالماً لمخلوق. أما جريرته فلا تعدو سوء حظ في أن يولد في عصر غير عصره ويعيش زماناً غير زمانه، إذن لا بد من الحكمة ليصير التعايش ممكناً. ينجح أحياناً فتراه متوافقاً متطابقاً شكلياً، ويفشل أحياناً فتراه مغترباً ساخراً ، هي العبقرية وأعراضها دون شك كما شخصّها علماء النفس والاجتماع، هي الحكمة والبصيرة النفاذة في الوجود ، ماهيته بذاته، وما فيه من الاشياء ، ومن فيه من البشر .
رأيتُ الراحل الكبير أول مرة في أول محاضرة لي كطالب في الجامعة الأردنية وكان استاذاً فيها لمادة التاريخ . بهرني الرجل وقد بدأ محاضرته متسائلاً عن التاريخ وأحداث التاريخ، ومن يكتب التاريخ،وكيف يُكتب التاريخ، وكدّتُ أفهم ان التاريخ كله هو مخرج للعلاقة بين السوط والقلم ، وان لا حقيقة في التاريخ أبداً وأن كُتب التاريخ كما يراها ما هي الا أكوام و أوراق إذا ما جُمعتْ فوق بعضها البعض أنسب عبارة ينبغي أن تُكتب فوق هذا الكوم هي " الله فقط أعلم بصحة هذه الحكايات" ؛ ولما تقدمت به السن نطقها بوضوح أن التاريخ ما هو الا مادة لإثارة الضغينة وعدم التسامح بين الشعوب، وهو مخزن للذكريات المُرّة وآلام البشر وعداواتهم وهذه كانت قناعة دفعته الى ان يتصل بأحد الرؤساء الفرنسيين ليقترح عليه أن يكون هناك تاريخ واحد للعالم كله يُدرّس للأجيال ، لا يتضمن الا الاشياء البعيدة عن المذابح والانتصارات والهزائم وكل عوامل الضغينة ومسبباتها.
من محاضرته الأولى شعرتُ أنني أمام إنسان مختلف فلأول مرة أرى أستاذاً يبدأ درسه الأول بالتشكيك بصحة ما يقوم بتدريسه وتعليمه للتلاميذ، لقد حفرت تلك المحاضرة عميقاً في عقلي واستقرت بذهنيتي وكأنها لامست شيئاً كامناً في استعداداتي وخصائصي الخلقية والشخصية التي تبلورت مع الزمن ووجهت سلوكي وأنماط تفاعلي مع الآخرين، وهو ان لا شيء في التاريخ الانساني يستحق القداسة ولا شيء يساوي الحرية ، حرية الروح ، وحرية الجسد ، وحرية الشخص ،وحرية الفرد ضمن اطار ما ينفع ولا يضر الآخرين ، بهذا فقط تتحقق انسانية الانسان.
واليوم تنتابني مشاعر متناقضة ، مشاعر الفخر بوطني الذي أنتج مثل هذه الشخصية العملاقة ، ومشاعر الحزن على وطني وقد فقده، ولا أراه الا انه يقف ببلاهة أمام هذا الحدث الجلل وخسارته الكبيرة لهذه الشخصية العظيمة المفطورة على العظمة، في الوقت الذي أرثي حال الوطن إذ كثيراً ما رأيته يفتعل الهزّة العظمى لوفاة قزم مصنوع.
ويكفيني فخراً أن أشعر بفداحة الخسارة ، كما يشعر بها كل أحرار الاردن فغياب القامات الشامخة منارات العلم والأدب والحكمة الرجال الرجال خسارة كبرى للأوطان لا يشعر بفداحتها الا الكبار الأحرار من الرجال والنساء ولا يقدر الكبار الا كباراً.
وكما كانت بلاد الشام حبيبة الى قلب الراحل الكبير ، فهي اليوم ترد على الحب بالحب ، وكما أراها لا أملك إلا أن أقول :
لفّ السوادُ بلاد الشام إذ فقدت
قمراً أنار سماءها والفرقدا
لك الرحمة يا فقيد الأمة ، لك الرحمة أيّها الشيخ المعلّم، اليوم متّ جسداً وتخلدت روحاً وذكرى، وسلام عليك يوم ولدت ،ويوم مت ، ويوم تُبعث حياً .

تابعو الأردن 24 على google news