طبقة السلطة وأوهام الواهمين
دولة الدكتور فايز الطراونة أدلى بعد تكلبفه بتشكيل الحكومة الجديدة بالعديد من التصريحات غير الموفقة , نشرت الرعب والخوف من القادم , ربما كانت تعكس قناعاته بصدق , لكن القناعة الشخصية ليست دائماً للنشر على الملأ بل يمكن إنجازها إجرائياً دون اذاعتها وكأنها تهديد . ونتيجة ذلك واضحة , هدوء شعبي مصحوب بدهشة مع تصديق وعدم تصديق . فهل يمكن لهذا الرجل أن يقصد ما قاله ؟ ما قاله فهِمه الناس على انه ليس فقط عودة الى قانون الصوت الواحد انتخابياً , ورفع الدعم الحكومي عن سلع أساسية وتحميل كامل فاتورة المحروقات للشعب وتداعيات هذه الفاتورة بعد رفعها على كل عصب من أعصاب جسم هذا الشعب الذي صار مهشّماً , فالذي يستسهل رفع الدعم عن المحروقات يستهين بما ينتج عن ذلك من ارتفاع لكل السلع ... ولا يقلل من الآثار المدمرة لمثل هذا القرار ( الذي قد تكون الدولة مضطرة اليه – لا أحد يعلم – حكاية التعويض النقدي .. فهذه خرافة , أقرب الى الفنطزيات المسرحية .. ) ماذا يعني أن تدفع 100 دينار مثلاً لرب الأسرة (بدل محروقات) , وأنت تعلم انه سينفقها خلال يومين على السكر والشاي والدخان وشراء بعض لوازم البيت وفي يوم واحد , حيث ستتبخر المائة دينار , و إن بقى منها قليل فلسائق التكسي أجرة توصيله هذه المشتريات إلى البيت , وبعدها كيف وبماذا سيشتري هذا الإنسان ملابس لأولاده لأنها سوف ترتفع بالضرورة ؟ , خبرات عايشناها ونعرفها هنا , كما سترتفع أسعار الخضار لأنها تنقل بالبكبات والديانات وهذه تسير بالمحروقات التي ارتفعت , ومن أين سيدفع للمدارس التي سترفع أقساطها بسبب ارتفاع كلفة نقل الطلبة وبسبب الضغط الحكومي عليها لرفع الرواتب ...؟ كل ذلك سيتحمله رب الأسرة (أبوالعيال) , ومن أين سيدفع للجامعات التي تتفلت كوادرها للهرب الى جامعات العالم حيث المُرتّبات العالية ؟ , من أين سيدفع للحمة والدجاج والبيض بعد رفع الاتحاد الاحتكاري أسعارها الى عنان السماء ؟؟
إن حكاية الدفع قبل الرفع أو بعد الرفع (كله محصّل بعضه) حكاية جُرّبت وفشلت , بل هي إذلال ما بعده إذلال .. إذن ما بقى إلا أن يجلس الناس في هذا البلد , بالظلام حتى لا يرون عورات بعضهم البعض من العري ولا صفرة وجوههم من الجوع , حتى الشوارع بدأت تظلم أول بأول .... تماماً كما الحياة بمجملها وبإدارتها بدأت تظلم . فهناك قحط واضح بالأفكار المولدة للحلول , وهذا طبيعي ونتاج متوقع لسياسات الاتحاد الاحتكاري لطبقة السلطة , فطبقة السلطة مصرّة على الاستفراد والاستبداد بالسلطة واستبعاد كل الكفاءات التي تفوقها بكثير , وهذا سلوك سلبي مفهوم في المجتمعات المتخلفة , حيث يسيطر عل ذهنية الفرد في تلك المجتمعات ما يسمى "بغرور المعرفة والفهم" فلا أحد أعرف منه ولا أفهم , ويعبرون عن هذا المرض بمَثل دارج يقول (كل واحد عقله براسه مدينة) يعني لا عقل أوسع من عقله ولا أكبر , و يلازم هذا الوهم , الإنسان في تلك المجتمعات منذ بلوغه سن الوعي ولإدراك , وهو الوهم الذي لعب دوراً حاسماً في إعاقة الحضارة البشرية بل كان الدافع الرئيسي للصراع بين البشر , فيما بينهم داخلياً وبينهم وبين الآخرين خارجياً . ثم اهتدت البشرية عبر مسيرتها الحياتية الى ضرورة تهذيب هذا (الوهم) حتى يصبح التفاعل بين الناس ممكناً . فأنت لا تستطيع أن تحتفظ بعلاقتك بالناس إذا كنت لا ترى فيهم إلا أغبياء أو جهلة أقل دراية منك ومعرفة وأنت العارف وهم لا يعرفون ؟ مثل هذا الشعور أو (الوهم الخَلْقي) تهذبه الحضارة والتعليم مع الزمن . فإذا ما تهذب تأهل الفرد لقبول الآخر , وتأهل المجتمع لتقبل السلطة والتعايش معها , وتقوم بذلك الرافعة الأساس للحياة الاجتماعية والسياسية الديمقراطية , فالسلطة تظل مقبولة ما دامت قادرة على إقناع الناس بأنها أعرف منهم فعلاً بمصالحهم أو على الأقل بأنها محيطة تماماً بتلك المصالح , ولديها وضوح تام نحو آليات تحقيق تلك المصالح وخدماتها , لكنها لا تعود كذلك مقبولة إذا فرضت ذلك عليهم بالقوة لأنها بذلك تكون ضحية للوهم الخَلْقي الذي يتناسب أثره طردياً مع البدائية والتخلف . معنى هذا إنها تسبح ضد التيار , فالمجتمعات تتفتح على بعضها , والمعارف تنتقل وتتراكم , والقناعات الجامدة تتزحزح بل وتتغير . وهذا يفرض على طبقة السلطة أن تتخلص من هذا الوهم لا أن تتجمد وتقف عند حدوده لا تتعداها لأنها بذلك تكون قد مرضت و أزمن فيها المرض ولإشفاء لها منه . فالعقول البشرية المتنورة اليوم يستحيل أن تؤمن بأن الطبقة التي أدارت المجتمع والدولة منذ خمسين عاماً ، ما زالت صالحة أن تديره اليوم بعد أن صارت النتائج واضحة.
ولو عملنا استفتاء حول نسبة من يعتقدون بإمكانية صلاحية هذه الطبقة فالنتيجة قد تكون صفر ، حتى المنزل الذي كان يناسبك قبل 50 عاماً أو الملابس أو الأطعمة وأساليب المعيشة وأدواتها ، من المؤكد انها لم تعد مناسبة اليوم.
إذن لابد من التغيير في طبقة السلطة إذا أردنا أن نظل بمركب البشرية الساعية الى التطور ، لابد من أن تتغير كأشخاص ومناهج في الحكم والإدارة ... وأكاد أجزم أننا إذا لم ندرك نحن ذلك ونعمل من أجل تحقيقه ، سوف ينوب عنا الآخرون , ويفصّلون لنا حياتنا كما يرون , فالعالم لم يعد يتحمل مجرد البطء في الحركة فكيف بالجمود ؟ . ان محاولات الشد الى الوراء وتثبيت مظاهر حياتنا القديمة على اعتبار أن الزمن ما زال هو الزمن , والناس ما زالوا هم الناس المتخلفين ولا ضرورة لأن تتغير طبقة السلطة ، فهذا خداع للذات أكثر منه خداع للآخرين , فالتخلف الشعبي بشخوصه ومظاهره صار هو الأقل في حياتنا . أما الغالبية فقد تخلصت من هذا المرض وشُفيت منه ، وهي اليوم تتفرج على محاولات قوى الشد العكسي لإعاقة التغيير ، فلا تثير لديها سوى الرغبة في الضحك , والشعور بالرثاء.
وعودة على ما قاله دولة الرئيس وصرّح به ... نقول : ان هذا النمط من التفكير ربما لا يعكس تفكيراً سياسياً فردياً , بل منهج عتيق مسيطر على طبقة السلطة منذ نصف قرن.
فإن كان ذلك كذلك ، فمعناه أن طبقة السلطة في بلادنا لم تتخلص من (مرض الوهم) إياه ، ويبدو إنها قطعت تماماً أي صلة لها بالطبقات الشعبية ... وصارت تفكر لذاتها وتخطط لذاتها , وتنفذ كل ما تراه محققاً لمصالحها ... أما دورها وهي تقوم بذلك فهو : أن تهدد ، وأن تخيف ، وأن تجوّع ، وأن تأمر ، وأن تجبي ، ولا دور للشعب إلا أن يرتجف ، وأن يخاف ، وأن يجوع ، وأن يطيع وأن يدفع ، وهذه استحقاقات تقول لنا تجارب الدول المحيطة بأنها مقدمات للمرحلة الأخطر التي تسبق الإنفجار عادة وهي مرحلة : الإخلال بالأمن كإجراء لا يبقى أمام طبقة السلطة من اجراءات إخضاعية سواه . ذلك أن تدريب طبقة السلطة في العالم العربي على العموم ، يعطي الاخلال بالأمن الدور الأكبر كآلية أخضاع ودفع الناس إلى إعادة ترتيب أولوياتهم ، حتى تصبح إعادة الأمن والاستقرار أولوية أولى تطغي على غيرها من الأولويات فيصبح الأمن هو المطلوب فقط وليست مطالباتهم بالديمقراطية والإصلاح ، والحياة الفضلى – وهذا منهج عقيم ولعبة خطرة .. فالأمن إذا ما اختل فلن يعاني من ذلك الشعب فقط , بل جميع الشعب وطبقة السلطة نفسها التي لن تكون بمنأى عن ذلك وبئس الاجراء الذي لا يعود على الناس وعلى صاحبه الا بالضرر.
كما أن سحب الناس الى موضوعات فرعية على افتراض أنها الأهم (مثل قانون الانتخاب واجراء الانتخابات) , بحد ذاتها هو مسرحية ليس لها من متفرجين على المسرح ... فالناس ليسو جوعى للإنتخابات والديمقراطية المزيفة , بل جوعى للخبز وجوعى للعدل والعدالة واحترامهم كبشر واحترام كرامتهم واشراكهم بتقرير مصيرهم . والانتخابات بالمعنى الذي نعرفه ، لا تشركهم بشيء لكنها آلية سبق أن اعتمدت لممارسة التهميش الرسمي للكفاءات وتصعيد اناس لا يعرفهم الناس ويفرضون عليهم على إنهم ممثلين لهم , لكنهم على مقاس السلطة . هكذا يفكر الناس , ومن يعتقد بأنه يخدع الناس بالانتخابات إنما يخدم نفسه , المشكلة ليست بالقانون الدائم أو المؤقت ، أو الموجود أو الغائب , المشكلة بتزوير ما يجري باسم قانون الانتخاب و باسم عملية الانتخابات ، فهل يمكنكم ضمان عدم التزوير ؟ وكيف ؟ لقد ولدت طبقة السلطة من (رحمها) هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات ، هذا صحيح ؛ لكن نسبة من يثقون بنزاهتها المفترضة سلفاً ، قد لا تزيد عن نسبة طبقة السلطة نفسها الى مجمل طبقات الشعب والتي قد لا تصل الى 1 بالألف ، ولمن يشك ، فأي استطلاع نزيه من المرجح انه سيؤكد ذلك . يعني أن هناك 999 بالألف من الناس لا يثقون بأية انتخابات تجريها طبقة السلطة الحالية بإشراف أية هيئة متولدة عنها.
إذن : لماذا كل هذا التركيز على قانون الانتخابات وعلى عملية الانتخابات ؟؟ !!!!
أن كل ما تقوم به طبقة السلطة حالياً لا يقارب اهتمامات الناس ولا مطالبهم ... فهل تريدون أنتم ذلك يا طبقة السلطة . إذن إعلنوها صراحةً دون لف أو دوران قولوها : نحن الأردن ، والأردن نحن .. واكسروا احتكار لويس الرابع عشر لهذه العبارة التي نطق بها في غمرة نوبة من نوبات جنون العظمة ومرض النرجسية المزمن الذي كان يعاني منه ذاك اللويس.