تصريحات الطراونة وفن اللامفهوم
من الواضح أن دولة الرئيس مُصِر على أن يفاجئنا بين حين وآخر بتصريحات تدفع حتى الحليم أن يتخلى عن حلمِه . ففي زيارته الأخيرة لوزارة الداخلية المؤسسات الأمنية ، نُقل عنه وكما نشرت الصحف أنه قال : "اما التعدي على رموز البلد ومقدراته فهذا غير مقبول ولا يجوز التهاون معه" انتهى الاقتباس ... إلي هنا جميل ... وحلو ... لكن ما هو مر وبشع أن الكلام غامض وغير مفهوم بالمرة ... فماذا يقصد دولته بكلمة (التعدي) هل باليد ، أم باللسان ، أو بالسلاح ... أو بماذا .. الأمر غير واضح .. وأين الحد الذي رسمه دولته ، حتى يعرف الناس أن تجاوزه غير معقول ... ولا يجوز التهاون معه ... ثم ماذا يقصد دولته بقوله "غير مقبول" ؟؟ هل ذوقياً؟ أو قانونياً ؟ أخلاقياً ؟ أو اجتماعياً الكلام غامض جداً وغير واضح . ثم من (الحَكَم) ليقول : هذا مقبول ، وذاك غير مقبول ؟؟هل هو دولته شخصياُ ؟ إذا كان هو الحَكَم (فكيف له أن يحكم بذلك في غياب الحدود الدقيقة التي توضح للناس أين (يسيروا) وأين (يقفوا) ليكون حكمه (بالتعدي) عادلاً ؟!! أم أن جهة الحكم هي القضاء والقانون ؟ فإذا كان كذب فلماذا لا يترك الأمر كله للقضاء والقوانين إلى أن يحدث الحدث وأن يتسامى المسؤول أول عن كل ما يمكن أن يُفهم على أنه تهديد أو تخويف ؟
التهديد أسلوب كرهه الناس لأنه يذكرهم بمناخات الدكتاتورية والحكم العرفي والدرك وجنود الفرسان الذين كانوا يطاردون فقراء الفلاحين من حاكورة إلى حاكورة وهؤلاء يرتجفون ليس خوفاً فحسب ، بل جوعاً ورخاوة بمفاصل الركب شقاوة وفقر دم ، وكأنهم مجرمون مطلوبون ، مع أنهم أبرياء ، يتراكضون خوفاً أمامهم لا يدرون لماذا ؟!!! ربما آنذاك اقتضى الضبط أن تكون السلطة مخيفة ليرعبون الناس ، أما اليوم وقد صار شعبنا شعب الجامعيين والمتعلمين.
مطلوب من السلطة أن تكون "مُقنعة" وقدوة تُحتذى ونموذج في الاخلاقيات والمثل واحترام القانون والجرأة في تطبيقه على الكبير قبل الصغير والقوي قبل الضعيف ، ونموذج في المحافظة على مصالح الشعب وعدم إغراقه بالديون ، ونموذج في الشفافية والطهارة الإدارية واحترام الذات والحفاظ على المال العام.
ثم : هل يشمل مصطلح (التعدي) الذي نحته دولة الرئيس فعل السرقة ونهب المال العام ، والسطو باسم السلطة على ممتلكات الوطن العامة ؟ الناس يقولون هذا حدث وهناك فاسدين ؛ إذن لتبدأ بهم يا دولة الرئيس وليكون هذا دليلك الوحيد وشاهدك الوحيد لإثبات مصداقية رفضك (للتعدي) . (فرفض التعدي) كمبدأ ، جيد ، لكنه ليس هو المطلوب ، بل رفض التعدي عملياً هو الأجود والمطلوب . إن (فعل التعدي) قدحدث ... فلماذا الانتظار ؟ هل لكي (يتعدى) موظف (كحيان) أو عامل بسيط ؟؟؟ .
هذا عن كلمة (التعدي) .. لنأتي بعد ذلك إلى قوله (رموز وأساس البلد ومقدراته) لنسأل : ماذا قصد دولته بكلمة رموز ؟ ما يعرفه الأردنيون أن هناك (رمز) واحد هو الملك ... أليس كذلك ؟ يعني من البشر ، ولنترك مسألة (العَلَم) كرمز مادي . وبإضافة "المادي" يصبح مثنى ... بمعنى أن هناك رمزان ، لكن دولته تحدث عن (جمع) قال : رموز !! من هم هؤلاء الرموز يا رعاك الله .. أتراك واحد منهم ؟ ربما ؟ لكن إذا كنت كذلك ؛ حُق لكل صاحب دولة أن يصبح رمزاً مثلك حتى وإن كان فاسداً ، فهل هذا ما قصدته يا دولة الرئيس ؟ سيما أن الناس يشيرون إلى البعض منهم ؟؟!!
أما إذا قصدت كل ذوي المراتب السامية والمقامات العالية ، فكل من يتصدى للعمل العام يصبح بالضرورة وكأنه ملكية عامة للشعب لا خصوصية له تصونه عن النقد .. وانظر كيف يتعامل الناس في الدول المتقدمة مع أصحاب المقامات العالية أو (الرموز) بلغتك ، لا يتركون لهم غطاء على عورة رغم استقامتهم ، فهل تريد من شعبك وأنت منهم أن يصابوا بالخرس إذا ما رأوا رمزاً قد أخطأ ؟؟!!
دولتكم تقول باتباع الطرق القانونية والدستورية للتعبير عن ذلك ؛ أليس كذلك ؟ لكن السؤال : ومن قال أن توجيه الانتقادات لرموز العمل العام حتى وإن تجاوز حدود اللياقة الواضحة بذهنك وذهني ليس دستورياً ؟؟ فالدستور يحمي حرية الرأي (المادة 15 بند 1، من الدستور) ، والنقد سلبياً أو ايجابياً يدخل في باب الرأي . والمتضرر من النقد إذا كان (رمزاً) يمكن أن يلجأ للقضاء لدفع الضرر عن نفسه .. ومحاسبة المتجني إذا اثبت خطأه قانونياً . إذا كان الأمر هكذا ، فلماذا يحاول دولته إخافة الناس وحماية الرموز من انتقاداتهم مع أن هذا من واجبات الناس الواعين الأحرار ؟؟
لنترك الرموز ، لنأتي إلى كلمة (أساس) ، فدولة الرئيس لا يقبل أن يتعدى أحد على (رموز)(وأساس) البلد رموز، سألنا عنها ، بقى (أساس) ماذا قصد دولته بكلمة (أساس) البلد . هل قصد أمور مادية أو بشرية ، تشريعات مثلاً ؟ أم شخصيات ؟ الكلمة في غاية الصعوبة والغموض ؟ هل قصد مؤسسوا البلد يعني الملك المؤسس و أبناءه وأحفاده أم من ؟؟ . والأصعب منها كلمة (مقدراته) ماذا قصد (بمقدراته) وكيف يمكن أن يعتدي مواطن على مقدرات البلد ؟ فالاعتداء على المقدرات إذا قصد بها الأصول من أموال وعقارات وشركات ومؤسسات قطاع عام ... وخلافه ... نقول : التعدي على هذا المستوى ، هو فعل احترافي وسلطوي في بلادنا ، فلا مجال لمواطن عادي أن يرتفع ، بتعديه إلى هذا المستوى ، أما القادرون على ذلك فلا ينطبق عليهم ما قصده دولة الرئيس في تهديده أو وعيده أو تنبيهه ... سمّه ما شئت.
إذن : طالما أن تعدي المواطن العادي على المقدرات الوطنية غير وارد ، وطالما أن امكانية مساءلة (القادرين) على هذا المستوى من التعدي (في ضوء ما حدث والكيفية التي تصرفت بها ازاءهم الحكومات الأردنية) ؛ أمر غير وارد . نصل بالنتيجة إلى القول بأن ما طرحه دولة الرئيس بخصوص هذه الجزئية يظل من منظور حسابات المنطق .. غير وارد.
لنعود إلى أقوال دولته ، لقد قال دولته أيضاً : (أن بعض الحراكات الشعبية تخرج بين الحين والآخر خارج إطار المشروعية والتعبير السليم عن وجهة النظر) .. وقال (بأن ذلك ظاهرة غريبة عن مجتمعنا وسيرتنا وأخلاقنا التي تربينا عليها)، انتهى .
لنسأل الرئيس : كيف نعرف إطار المشروعية ، ونعرف التعبير السليم عن وجهة النظر .. ؟ طالما أن المسألة تتعلق بالتعبير عن (وجهة النظر) فمن الذي يحكم بسلامة وجهة النظر أو عدم سلامتها وعلى أي أساس ؟؟ ربما المقصود على أساس القانون ؟ والسؤال : متى كانت وجهات النظر ... كوجهات نظر مخالفة لأي قانون ؟! إلا إذا كان قانوناً قراقوشياً يعنى : مفصل لغايات الاستبداد وفرض رأي الحاكم ووجهة نظره كنموذج لا يجوز مخالفته!! .
إن ما طرحه دولة الرئيس لو طبّق فعلاً سيدخل البلد في دوامة ليس لها أول ولا آخر .
ولتوضيح الأمر بمثال : لو فرضنا أن مواطناً قال إنني أرى أن دولة الرئيس أو جلالة الملك لا يتعامل بجدية مع الفاسدين وأراه منهم .. ورد عليه مواطن آخر بالقول : لا أنا أخالفك الرأي فالأمور هذه قد تجري من وراء دولة الرئيس أومن وراء جلالة الملك وأستبعد أن يكون أي منهما منهم .. السؤال : هل يعني هذا في ضوء ما قاله الرئيس ، أن تُرفع قضية على الأول لأنه تعدى على رموز الدولة ؟؟!! إذا كان نعم استوجب الأمر بالمقابل أن نعقد حفلاً موسيقياً يُدعى إليه المواطن الثاني ونقلده وسام لأنه دافع عن رموز الدولة ، فتغرق الدولة بمؤسساتها بقضايا للجزاءات ، وحفلات للمكافآت .. وهذا نذير شؤم.
قد يقول البعض : الأول نعاقبه لأنه أخطأ وتعدى ، أما الثاني فلم يخطئ فلا عقوبة عليه ولا مكافأة . والسؤال ماذا لو كان الأول صادقاً بمعيار الواقع ، والثاني قال ما قاله نقاقاً ؟ فمن الأحق منهم بالعقوبة أو المكافأة ؟؟!! المسألة معقدة كما ترى دولتك وليست سهلة إذن !.
أما عن قول الرئيس بأن تلك التصرفات (غريبة عن مجتمعنا وسيرتنا وأخلاقنا التي تربينا عليها) نتساءل : من أين جاءت الغرابة تلك ؟ هل نحن مجتمع من الملائكة لا نخالف القوانين والأُطر المشروعة أبداً ؟؟ نحن بشر ننضبط أحياناً ، ونخالف أحياناً ، ولا مجال للاستغراب هنا أبداً . ثم ماذا يعني دولته (بمسيرتنا) هذا مصطلح أنا أعترف بأني لا أفهمه : للمسيرة )أية مسيرة) اتجاه ! فأين اتجهت بنا المسيرة يا أصحاب المسيرة حتى الآن ؟ انظر إلى أحوال البلد واحكموا !!!.
إذن أين المنطق في أن نعتبر هذه المسيرة (مقياس وميزان) للأفعال والتصرفات ، فالجيد ما جاء متفقاً معها ، والسيئ ما جاء غريباً عنها أي غير متفق معها ، والسؤال : إذا كانت (المسيرة اياها) قد وصلت بنا إلى 19 أو 20 مليار دين ، وإلى انتشار فاضحٍ لفسادٍ عام طام ، وإلى متسولين على أبواب سلاطين العرب الأثرياء ، وعتبات المانحين الأجانب ، وإلى حياة يوم بيوم بالاقتراض والديْن ... ؟!! أليس من الأفضل أن نعكس الآية ونعيد تصنيف الأفعال ؛ فنعتبر ما يتعارض ويأتي غريباً عن هذه (المسيرة) هو الصحيح ؛ والخطأ ما جاء متآلفاً معها ومتطابق ؟؟؟!!!.
ثم أن دولته وكأنه يعتبر ان الأخلاق التي تربينا عليها مثالية ، وهذا بحد ذاته منطق غريب ! . فلو كانت أخلاقنا مثالية لما صار هذا الحال حالنا ، ولما صار الخروج من أزمات هذا الحال ، أمنية قد لا تتحقق إلا إذا تخلينا تماماً عن تلك الأخلاقيات ، وفتحنا الباب لأخلاقيات الشباب الجديدة ، أخلاقيات اشترك العالم كله عبر وسائل الاتصال الحديثة في زراعتها بنفوس شبابنا .. وهاهم يهتفون كي يطووا صفحة ذاك المجتمع الذي أسسناه على اخلاقياتنا يا دولة الرئيس ولعلي و إياك من نفس الفئة العمرية ، لقد كانت جيدة في نواحي ، لكنها سيئة في عشرات النواحي .. يكفي أن نتذكر الذل والخوف والنفاق للكبير والمتسلط والتأدب المصطنع أمامه ، والحياء إلى حد السكوت عن الحق ... أليست هذه الخصال من مخرجات ثقافتنا يا دولة الرئيس ؟؟ فكيف تعدّها ، نموذجاً للقياس ؟؟
أما قول دولته ، بأن الأردن لم يبطش بمعارض أو بما معناه ، فهذا صحيح ونقطة لصالح النظام السياسي ، لكن هل هذا كافٍ لنسكت عن كل العيوب الأخرى ؟
إن افتخار دولة الرئيس بهذه الصفة ، يشبه افتخار الزوج الذي اعتاد أن يخون زوجته بعد أن اكتشفت بقوله لها ، ألا يكفي إنك لم تسجلي علي يوماً إنني ضربتك ولو مرة واحدة .
لقد قرأت في حياتي العلمية آلاف الكتب السهلة منها والمعقدة ، ولم أجد بأي منها تلك الصعوبة في الفهم التي واجهتني عندما حاولت أن أفهم ما قاله دولة الرئيس في زيارته الأخيرة لوزارة الداخلية وغيرها ...
ولا أدري إن كان ذلك لعيب فيّ أو لعيب فيه.
عافانا وعافاه الله ... ودمتم.
بقلم : ا.د ادريس العزام