نعم ... الوطن مصلحة
العلاقة بين المواطن والوطن ليست علاقة عاطفية كما يتوهم الكثيرون ، بل هي علاقة مصلحية بالدرجة الأولى يحكمها قانون التبادلية المصلحية وهو القانون نفسه الذي يربط العامل بمنشأة العمل أو بصاحب العمل . واهم هذه المصالح ، المصلحة في الحصول على "الخبز" وبلغة الاقتصاديين المصالح الاقتصادية فالمواطنون بالنسبة للوطن ، أي وطن ليسوا أولاده أكباده التي تمشي على الأرض(هكذا لله بالله ) بل هم مخلوقات بشرية عاملة ، لها مطالبها واحتياجاتها مطاردة دوما ً بهاجس البقاء والمحافظة على الحياة ، ولا عامل يعمل بمجال هذا الهاجس أكثر من العامل الاقتصادي وتحصيل كل الحاجات ومستلزمات البقاء أولا ً ثم مستلزمات الراحة أو الشعور بالسعادة ثانيا ً.
مطلوب من الوطن أو من كل القائمين عليه والمتحدثين باسم مصالحة والمحافظة عليه ، أن يجعلوا من الوطن قوة تقف إلى جانب المواطن في السرّاء ، لكن الأهم من ذلك في الضرّاء فإن حمى الوطن مواطنيه ودفع عنهم غلواء الحاجة والفقر ولم يحولهم إلى [أشياء مدرة للدخل الوطني الضرائبي]صار أخلاقيا ًأن يُطلب منهم الانتماء إلى الوطن فإن تخلى، غاب الدافع بل والبعد الأخلاقي عن مقولة الانتماء فإلى أي حد يمكن لنا أن نسمي المواطن مواطن والوطن وطناً إذا ما وجد المواطن نفسه في العراء عند أول محنة أو حاجة يحتاج فيها إلى موقف ايجابي وطني ودعم ...؟ماذا يمكن أن نقول عنا وعن وطننا والقائمين عليه ، عندما نراهم وقد أجبروا المواطن على أن يدفع مالا ً كرشوة نظير حق قانوني له ، فالمواطن قد يدفع نظير حاجات أو التخلي عن واجبات ،أما نظير حقوق له ، فهذا غريب بل غاية في الغرابة فإذا صح ما يقال فهل يجوز للوطن والعاملين باسمه أن يأخذوا مالا ً من أُناس نظير الحصول على الجنسية أو جواز السفر مع أنهم أردنيون بموجب قانون الجنسية لعام 1954؟؟؟؟
(يقال) أن حوالي 96000 مواطن من أصول فلسطينية جنسوا ودفعوا ، مع أنهم أردنيون قانونيا ً وذلك اعتمادا على تعليمات . ولكن قبل الاعتماد على تعليمات يظل القانون أقوى إذا ما دخلت المحكمة الدستورية المقبلة في الأمر وإذا لا بد؛ ....... فلماذا لم يعدّل القانون الذي ما زال قائما ً ويصنفهم على أنهم أردنيون رغم فك الارتباط بين الضفتين؟ ونحن نتحدث هنا عن ما قيمته حوالي نصف مليار دينار ذهب ليس للخزينة بالضرورة بل (ربما ) لجيوب الموظفين...... هذه واحدة وأخرى : بماذا يمكن أن نصف سلوك طبقة السلطة المتحدثة باسم الوطن وهم يرون ما يقارب من 1/3 سكان الوطن قد لحقت بهم أضرار بالغة من شركات ما يسمى (بالبورصات الوهمية) التي أجازتها الحكومة وصرحت لها قانونيا ً وفق ( الترخيص لديها)بأن تقدم هذه الخدمة للمواطنين. فالحكومة لا تصرّح لشركات وهمية (لو كانت وهمية ) , لأن الحكومة دقيقة كما تقول وبالغة الدقة كما أنها لم تعمل في السر ، بل في العلن ولسنوات ومنها من كان يدفع ضريبة دخل .... إذن العملية كانت تجري تحت عين الحكومة ؛وسكوتها كل هذه المدة تعني الموافقة وإقرارها لعملها... فكيف يستوي مع العقل والأخلاق أن يتبرأ الوطن من ضحايا شركات عبثت (كما تقول الحكومة ) بأموالهم .
في قوانين التأمينات كما يعلم العارفون بمثل هذه القوانين هناك مبدأ يقول : إن الحكومة لها دور (الحارس) بمعنى الضامن الأخير لمصالح المواطن ، إذا ما عبثت بهذه المصالح شركات أو مؤسسات أو جهات رخّصتها الحكومة وعجز المواطن عن أن يحصّل حقوقه منها . وأحيانا ً يكون هذا العجز عجزا ً (مقننا ً) يعني أن القانون النافذ يمكّن الأقوى من ابتلاع حقوق الأضعف ...فأين دور الحكومة (الحارس)هذا ؟؟؟ هل يكفي أن يضع الوطن يده على أموال 1/3 مواطنيه (ولا مين شاف ولا مين درى) ، وكل ما في الأمر إجراءات حولت أموال هؤلاء المواطنين إلى رواتب لموظفي محكمة أمن الدولة التي غرقت بجهد جبار وأغرقت معها أموال المتضررين.
الواجب والمسؤولية (الحراسية للدولة) توجب أن تدفع الدولة من خزينتها لمواطنيها ، ولا تكتفي بالقول (بإرادتهم أضاعوا أموالهم) فهم لم يضيعوها وإنما وضعوها لدى شركات رخـّصت لها هي ، ووثقت بها ولا يملك المواطن إلا أن يثق بما تثق به حكومته (الرشيدة) التي صار من واجبها أن تدفع للمواطنين أولا ً وتعود هي على أصحاب الشركات . أثبتوا مرة أن الوطن ينتمي لمواطنيه وأعيدوا أموال الناس لهم.
إن مثل هذه التصرفات في الحالة الأولى ، والإجراءات في الحالة الثانية ليس لها إلا معنى واحد ، هو ( الحكم بالفقر) على المواطنين . بل هي دفع إجباري باتجاه الاغتراب... فالمواطن قد يتخلى ببساطة عن الوطن إذا ما تخلى عنه الوطن (وعيفونا ) من المثاليات التي تفترض أن صلة المواطن بالوطن إذا كان المواطن شريف هي علاقة قدريّة لا فكاك منها ....فلو صح مثل هذا القول لما أفرزت عقول الإنسانية المبدأ القائل بأن " الفقر في الوطن غربة ، والغنى في الغربة وطن" فالمواطن ينتمي حيث يمكن له أن يعيش وتـُـحترم حقوقه ولو صحت تلك المثاليات ، لما عاتب خالق الخلق عباده ممن يشتكون ضيق الحال في أوطانهم ولا يهجرونها بآية تقول في معناها : قل لأمثال هؤلاء "ألم يكن في الأرض متسعا ً " هنا يحثّ الخالق الناس على ترك الوطن والبحث عن أسباب الحياة في الأرض كلّها ، فالأرض من المنظور الإلهي كلها للإنسان ، ولا تغرّنكم الحدود الوهمية . فاجعلوا الحياة في هذا الجزء من الأرض ممكنة ؟؟!! فنحن اليوم أمام فرصة قد لا تتكرر للإنصاف وهي أن تقف الحكومة ولو مرة إلى جانب هذا العدد الهائل من المواطنين المتضررين، لتثبت أنها تقف إلى جانب العدل، دون تملص من مسؤولياتها نحوهم كما دأبت أن تتصرف حتى اليوم.
أعيدوا ما أُخذ من الناس ولاحقوا من أخذوا وبالبطء الذي يناسبكم فأنتم أقدر على الصبر من الجياع... أم أن لحكومتنا رأي( غير شكل ) لأن وطننا وحكومتنا من طبيعة (غير شكل ) ...... أفيدونا... وأخيرا ً دعنا نقولها بصدق: إذا لم ينتمي الوطن للمواطن فقد حقه في أن ينتمي له المواطن. بل لم يعد ذلك واجبا ً على المواطن . فالوطن من المنظور العقلي الصرف، هو مصلحة قبل أي شيء آخر وعلى أساس التبادل المصلحي بينه وبين المواطن ونسبة العدل في هذه العملية التبادلية البحتة ينشأ الانتماء الوطني ، ويتدعم الاعتزاز الوطني أو يزول كلية؛ إذ يتحول إلى مجرد شعار ظاهري أجوف غبي يعبر عنه بعبارات فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع.
أنظروا إلى الدول المتقدمة كيف تتصرف ؛ فهي تمنح حتى جنسيتها لكل من يولد على أرضها أو في سمائها إذا كان عابرا ً لأجوائها ، لمجرد أنه تنفس هواء ذلك الوطن ، وبعد ذلك يــُــغدق الوطن عليه بكل ما يحتاج إليه لحاضر حياته ومستقبله إذا ما استقر فيه. مثل هذه الأوطان لها الحق أن تطالب مواطنيها بالانتماء لها بل والموت في سبيلها ، أما أن تتحول قضية الانتماء الى مجرد شعارات عاطفية وعبارات رنانة ( وبوسترات ) دعائية وعملية تحشيد مصطنع (فزعة) و( دب الصوت ) عند الضرورة فقط فهذا كلام يمكن أن يــُسوّق كبضاعة فاسدة على شعب بسيط جاهل لبعض الوقت . لكنه بالتأكيد لن يمر عليهم كل الوقت والدنيا قد تغيرت.
مطلوب: أن نعيد النظر بأساس سياستنا وجوهر هذه السياسة في إدارة شؤون هذا الوطن. ونفهم قبل كل شيء أننا نتعامل مع بشر. والبشر كما أثبتت كل العلوم الاجتماعية والنفسية كائنات مصلحية . لا يمكن أن تعطي إلا بمقدار ما تأخذ، وإلا فالثورة تصبح قدرا ً لا مفر منه إن لم تكن اليوم فغدا ً ، إذا اختلَّت معادلة التوازن بين طرفي العملية التبادلية هذه لصالح طرف (السلطة ) على حساب طرف آخر ( الشعب ) .
أ.د. إدريس عزام