jo24_banner
jo24_banner

انحيازا ً لحس العدل لا دفاعا ً عن فاسدين*

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

    بصرف النظر عن منطق القوانين الوضعية، وانطلاقاً من منظور فلسفي أخلاقي نقول: إن الجهات التي انبرت للتعامل مع بعض من صنفوا مبدئيا ً كالفاسدين ليست كلها بالضرورة على حق.

 فما فعلته هذه الجهات وما تفعله حالياً... هو فاقد للشرعية بمنطق "القانون الطبيعي " الجد الأول للأخلاق وللقوانين الوضعية كلها، بل ولشرعية تلك القوانين من الأساس... ذلك أن القانون الطبيعي كما يعرف فلاسفة القانون هو القانون الأزلي الذي يستمد كينونته وجوهره من اتصاله عبر بعد من أبعاده السامية بالعقل الكلي الفعّال(أو العقل الإلهي) كما يقول الفلاسفة وهذا العقل يحكم ويقرر منطلقا ً من منظور كلي ّ الرؤية... مطلق ومجرّد من الحسابات التي لا وزن لها إلا بمقدار صلتها بما هو حق مطلق وخير مطلق؛ بصرف النظر إن بدا هذا الحق باطلاً وبدا ذلك الخير شرا ً بحسابات البشر المحدودة بحكم محدودية ادراكاتهم أو مداركهم.ذلك أن البشر قد فُطروا على أن يكونوا مخلوقات أُحادية البعد وهذه حقيقة جردت الأشياء والأفعال في مواقف الفهم والتفسير من وحدانية السبب ، فتكون وحدانية البعد قد أنتجت نقيضها المتمثل بما هو معروف بالتعددية السببية . كقدر مفروض لا يملك البشر فكاكا ً منه .


فلا سبب ولا ماهية للأشياء ، لا حق ، ولا خير أو شر ، بنظر الإنسان المفرد ، إلا ما وافق البعد الذي ينظر من خلاله للأشياء والمواقف والأفعال؛وهو بعد لا ينفصل بطبيعته عن الهوى الفردي والمصالح الفردية . وطالما كانت هذه متباينة ومتصارعة ومتعددة؛والمصالح لا محدودة؛ فقد نتجت عن ذلك "استحالة" إن يكون حكم الفرد أو قلة من الأفراد على واقع ما ، أو شيء ما ،أو فعل ما، حكما ً صحيحا ً بالمطلق ، لأن الصحيح هو ما جاء متوافقا ً مع أهواء ومصالح الجميع ، وهذا مستحيل أو شبه مستحيل بل إن نسبة الخطأ فيه أرجح؛إذا ما أخذنا بالاعتبار ،إمكانية تغيير الهوى بين لحظة وأخرى على المستوى الفردي ، واستحالة تشابه الأبعاد والأهواء على مستوى القلة من الأفراد فكيف على مستوى الكثرة ؟؟؟!!!من جماعة أو مجتمعات.

وبناءً عليه : فإن ما يقوم به بعض الأفراد بحكم سلطاتهم الافتراضية من اتهامات ومحاكمات ....الخ ما هو إلا تعامل من قبل من لا يملكون الحق، مع آخرين تجاوزا حدود الحق من منظور أولئك. وعليه: فيكون الاحتجاج بالقول : بأنهم لا يحتكمون للمطلق بنظريتهم للأمور وتعاملهم معها ، بل لقوانين وضعية نافذة ، ومعايير بشرية سائدة ومتعارف عليها نقول : هو احتجاج جلي البطلان إذا ما عدنا بالقوانين الوضعية هذه وبالمعايير تلك إلى أصولها الطبيعية ، العقلية والأخلاقية .ذلك أن القوانين الوضعية حتى تكون أساسا ً صالحا ً للحكم وغير فاسدة ؛ لا بد أن تكون شرعية أولا ً وكذلك سلطة المنفذين لها ثانيا ً .... والسؤال : هل يملك الشرعية الحقيقية لسلطته كل من يمارس دورا ً تشريعيا ً كان هذا الدور أو رقابيا ً بسلطة القانون؟؟!! وهل يملك الحق في الرقابة والمساءلة والاتهام...الخ ؟؟!!

إن أية سلطة لا تكون شرعية إلا إذا كانت منتجا ً لتوافق اجتماعي عام في المجتمع الذي تُمارس فيه، أو رأي توافقي عام.فهل يتوفر مثل هذا الرأي العام التوافقي شبه الإجماعي (إن لم يكن إجماعيا ً) لكل من يمارس مثل هذه الأدوار في مجتمعنا؟؟؟!!!

 
دعنا نطبق هذه القاعدة على مجلس النوّاب الحالي وعلى المجالس السابقة التي نشأت إبّان مرحلة "الأردن القديم " أي أردن ما قبل الحراك الشعبي ونقول من حق مجلس النواب أن يراقب ويسأل وأحيانا أن يحقق، تماهيا ً مع دوره الرقابي الـمُفترض. وهذه الرقابة سلطة ممنوحة له نظريا ً .... لكن ليس من حقه أن يمارس هذه السلطة، وأية سلطة، إلا إذا كانت شرعية وذلك من منظور "القانون الطبيعي " ومنطقه، وليس بمنطق القانون الوضعي النافذ الذي ربما يعاني هو الآخر من أزمة في "الشرعية" . من هذا المنظور لا شرعية لنائب أي نائب ،إذا ما وصل إلى مجلس النواب عن طريق غير طريق الشعب (ناخبيه) فبانتخابهم له يكون قد توفرت له إرادة عامة ورأي توافقي عام من ناخبيه على أن يمثلهم... وهكذا يصبح وجوده في المجلس شرعيا ً وتصبح سلطته شرعية ً كذلك... ويصبح كل ما يقوم به إنفاذا ً لتلك السلطة شرعياً؛ حتى إن هذه الشرعية تظل ناقصة ، إلى أن يعود ويمارسها مستندا ً إلى حدود لا يتعداها لقاعدة قانونية شرعية، لأن الأفعال لا تكون شرعية إلا إذا قامت على أساس قاعدة قانونية مُـنظّمة لها، ولا تكون هذه القاعدة قانونية بالكامل إلا إذا كانت شرعية وقد لا تكون شرعية إلا إذا أنتجتها سلطة شرعية .... وهذه لا تكون شرعية من الأصل إلا إذا أنتجتها إرادة عامة أو نشأت عن رأي عام توافقي (رأي الشعب أ الناخبين في حالة النوّاب ) فإذا انعدم هذا الشرط (من الأصل)انعدمت بالتتابع شرعية سلطته، وشرعية دوره، فلا يعود شرعياً ولا قانونياً؛ وجوده في المجلس بالتتابع، ولا أي فعل قد يصدر عنه لا يسمح القانون الوضعي النافذ بصدوره إلا عن نائب ، وهو ليس بنائب حكما ً.

هكذا هو حكم أي شخص وصل إلى مجلس النوّاب عن طريق آخر غير طريق ناخبيه من الشعب.فإذا ما صحت أقوال الكثيرين من المسؤولين بأن كثيرين من أعضاء مجلس النوّاب الحالي (والمجالس السابقة)قد جاؤا إلى المجلس عن طريق (الأجهزة أو الحكومة) سمّه ما شئت، فمعنى هذا أنهم فاقدون لشرعية الوجود من الأصل في المجلس ، وإن كل ما صدر عنهم من تصرفات أو أدوار قاموا بها أثناء وجودهم غير الشرعي في المجلس هي فاقدة بدورها للشرعية.


وقياسا ً على ما يجري في الطبيعة، فأن التصدع إذا ما حلّ ببعض جدران أي مبنى عام ،زالت عن ذلك المبنى كله صلاحيته للبقاء أو الاطمئنان إليه، فيصير هدمه أولى بمعيار المصلحة العامة . وبالقياس ، يصبح الحكم بحل مجلس النواب الحالي ضرورة بمعيار المصلحة العامة ويصبح التحفظ على كل ما صدر عن هذا المجلس من تصرفات أو أقوال أو قرارات فاقدة للشرعية بسبب الجزم بأنها قد شارك فيها بعض فاقدي الشرعية من أعضاء هذا المجلس كثر عددهم أو قل، انحكاما ً للقاعدة الفقهية بأن ما بُني على باطل فهو باطل، بل وإمكانية تجاوز هذا الحد تظل واردة إذ يمكن وبقليل من التجرّد اعتبار فاقدي الشرعية من السادة النوّاب هم منتحلون لشخصية النوّاب وهذه تهمة ممكنة إذا كان من السهل (واشك بذلك) توفير الأسانيد القانونية اللازمة لتكييف هذه المسألة قانونياً بمعايير قوانيننا الوضعية النافذة.
أما الدفع بالقول ،بأن نيابة هؤلاء السادة شرعية رغم أنها لم تقُم على إرادة ناخبيهم ،لأنها تستند إلى إرادة من يملك السلطة الشرعية أو إرادة من يمثلون إرادته وأن سلطتهم الشرعية تلك؛ تنشئ بذاتها القاعدة القانونية التي تمنحهم شرعية قانونية وللأدوار التي يقومون بها داخل المجلس كنوّاب.إن هذا الدفع هو احتجاج بغير مُنتج ، ذلك إن امتلاك جهة ما فرداً أو مؤسسة للسلطة ، لا يعني بالضرورة والحتم امتلاكها للشرعية .لأن الشرعية لا تقع في طبيعتها في عالم القوانين، بل في عالم السياسة فالسلطة قد تنشئ قانوناً لكنها لا تنشئ بأي حال شرعية لا لها ، ولا للقانون. وعليه فالسلطة لا تكون شرعية إلا إذا استمدت هذه الشرعية من الإحساس العام بأن تلك السلطة محققة للمصالح العامة؛ وتحظى برضى الرأي العام وتوافقه عليها، وتمارس محكومة لقواعد قانونية ... والسؤال: هل تحظى بالشرعية تلك السلطة التي استمد منها بعض السادة النوّاب سبب وجودهم في مجلس النوّاب ؟؟!!!
إذا كان الجواب(بالنفي) حسم الأمر وصار حق النوّاب بالرقابة والمساءلة باطلا ً، كون وجودهم في هذه الحالة هو باطل بالضرورة، أو حكماً. وإذا كان الجواب(نعم) : فهذا يعني أن بناء السلطة في مجتمعنا هو بناء ديمقراطي مئة بالمئة .بمعنى أن الشعب قد انتخب المسؤلين والرؤساء من أعلى وحدة أو مؤسسة في الدولة إلى أدناها. ويكون بذلك باب النقاش قد استوجب الإغلاق حيث أن هناك سقوف لا ينبغي للحديث أن يطالها... فتكون هذه شهادة مضافة على انعدام الموضوعية لدى كل من تبنى الإجابة (بنعم) .ويصير كل ما يجري من أفعال الفاعلين وما يترتب عليها من أثمان وكلف هي تصرفات ضعيفة الحبكة على مسرح حياتنا ، لها أضرارها بالنتيجة لكن ليس لها فوائد.... بل إنها قد تؤشر على وجود أزمة أخلاقية نعاني منها جميعا ً في هذا السياق.

هذا بخصوص شخوص النوّاب وليس مجلس النوّاب كمؤسسة ....أما بخصوص الإعلام الحرّ الشريك الثاني لمجلس النوّاب من حيث المبادرة (كما يُشاع ) إلى كشف الغطاء عن حالات الفساد وشخوصه الفاسدين نتساءل : لماذا سكت الإعلاميون (العارفون) عن تصرفات أولئك الفاسدين من طبقة السلطة إذا كانوا حقيقة فاسدين لكل هذه المدة . وهنا نتناول الإعلام كموقف (لا كشرعية مثل النوّاب ) . إن ما نشره بعض الإعلاميين يقول :إن الفاسدين من طبقة السلطة (وليس الجميع بالضرورة) قد مارسوا الفساد منذ سنوات؛ فلماذا إذن سكت هؤلاء الإعلاميون العارفون عن ذلك حتى اليوم وما الذي استجد؟ فالدولة هي الدولة ، والحكومة هي الحكومة، والقضاء هو القضاء، والمجالس النيابية نسخة كربونية عن بعضها البعض وكذلك الأعيان والأجهزة الأمنية هي كما هي، ومنهجها في العمل كذلك ... إذن لماذا مارس الإعلام دوره الرقابي كسلطة رابعة بجد اليوم، وكشف ما كان يعرفه وكان قد صمت عليه كل هذه المدة السابقة، مع أن الضرر كان قد وقع ؟؟؟!!
هل معنى هذا أنه لم يمارس دوره الرقابي كسلطة رابعة، وكان يرى الفاسدين وامتنع عن الفعل الإيجابي المنوط بدوره كسلطة رابعة ؟؟؟! إذا كان (نعم) فما هو حكم القوانين الوضعية النافذة في من يرى الجريمة ويتستر عليها ؟؟ الحكم معروف ... هو شريك في الجريمة إن كانت هناك جريمة حقا ً .وعليه لماذا لم يتطرق أحد ولا أية جهة أو مؤسسة في مجتمعنا إلى مسألة أن يحاكم الإعلام ، وتحديداً من قالوا أنهم كانوا على علم وسكتوا عن الفساد والفاسدين ؟؟!! مجرّد سؤال.

إنّ ما ينطبق على المؤسسة الإعلامية ينطبق على كل الأجهزة ذات العلاقة التي أناط بها المجتمع مهمة المعرفة والإحاطة بكل شيء في المجتمع وبخاصة بعد أن وسعت تلك الأجهزة دورها التقليدي لتتجاوز ذلك الدور الأمني البحث إلى دور سياسي فعّال. وسيما أنها تقوم بذلك فعلا ًكما تقول وعلى علم بكل صغيرة وكبيرة.....فإذا كان ذلك كذلك.... وما تقوله صحيح... فكيف يُفسّر صمت تلك الأجهزة (العارفة) عن الفساد والفاسدين كل هذا الوقت؟؟؟ سيما أن الأضرار قد حصلت كما يُقال... وأن العناصر اللازمة لتكييف أفعالهم قانونيا ً لغايات المساءلة لا تطال الأفعال الإنحرافية الإيجابية ، بل يقضي العدل أن تطال الأفعال الإنحرافية السلبية أيضا ً. فالجرائم والتجريم لا يكون دائما ً على الأفعال ، بل أيضا ً على "الامتناع عن الأفعال" ،أليس كذلك ؟؟ فهل يعني ذلك أن نحاكم كل هؤلاء ...وتغرق المجتمع بمحاكمات ليس لها أول ولا آخر ، هل لدينا مجال للتروي؟ كلنا مسؤولون ، لكن قبل التفكير بالعقوبات والانتقام دعونا نتروى ونعمل الفكر والمنطق قليلا ً .

وختاما ً أقول: لقد سُقت هذه المقدمة لا للدفاع عن فساد أو فاسدين كما قد يبدو من القراءة السطحية، فمعاذ الله من ذلك...بل حتى أسوغ ما أُنادي به وارى فيه مصلحة عامة، وقد كنت قد أعلنته من مدة في ندوة للإتحاد العام لنقابات العمّال وبحضور قادة المعارضة من جهة الإصلاح والحراك الشعبي وهي الدعوة إلى فترة تسامح وطني لأشهر أو سنة على الأكثر، نشجّع خلالها من أخذ شيئا ً أن يعيده ونشجعهم على ذلك بأن يوصف من يفعل هذا منهم بأنه منحاز للوطن بعد أن امتلك الخيار ومن يعاند يترك ، فلا نقف معه حتى لا يعطلنا عن الحركة إلى الأمام ، يترك إلى المرحلة المُقبلة وهي أنسب للتعامل معه ، شريطة أن تقيّد حركته بشكل مدروس كي لا يفلت من المساءلة .نحن أحوج ما نكون اليوم إلى الهدوء كي نشتغل أكثر بالتأسيس وبروّية وبتوافق جماعي عام لا يستبعد أحدا ً، خطوات الانتقال إلى الأردن الجديد التي صارت ملامحه المطلوبة شعبيا ً معروفة للجميع، سيما أن جلالة الملك قد أبدى استعداده لقيادة المجتمع إلى تلك المرحلة .... دعونا نهدأ ... فالله قد خلق الدنيا بستة أيام .. فهل من معتبر ؟؟

تابعو الأردن 24 على google news