التدخل الملكي وبعض أبعاده
كراسي الحكم ليست لعبة يمكن أن يجلس عليها كل من هب ودب . بل هي في الظروف غير المريضة عبءٌ وهمّ فهي قمم تكشف من يجلس عليها للعامة والخاصة اذ يصبح (كالنيشان) هدف لكل عين في الداخل والخارج . فإن كان أهلاً لموقعه أفلح وفاز ؛ وإذا لم يكن مؤهلاً ، باء بالفشل والخسران .
ومسألة الحكم (كار) من ضمن (كارات) الحياة وبخاصة في المجتمعات غير الديمقراطية التي تلعب فيها خصال الحاكم وسماته الشخصية ، وقدراته الفنية والعقلية ، الدور الرئيسي في إدارة شؤون الدولة . أما في المجتمعات الديمقراطية فالحكم مؤسسي ، ولا يشترط في الحاكم أن يكون موهوباً أو مؤهلاً ، فهو لا يحكم ولا يتحكم ، بل ينفذ . والتنفيذ مهارة يتقنها حتى اضعف الناس .
ونحن هنا لا يعنينا المجتمعات الديمقراطية ، بحكم أنها غريبة عنا ، ونحن غرباء عنها ، وبعيدون عنها بعد الأرض عن الشمس .. هذه حقيقة لا عيب أن نعترف بها لأن الزعم بأننا ديمقراطيون فهذا كذب ، وإذا ما صار الكذب مصدره عليّة القوم ، فاقرأ السلام إذن على أجيال الطفولة و الشباب التي تجد نفسها تتغذى فكرياً منذ نعومة أظفارها على الكذب يصدر عن الكبار ، فتكبر الأجيال وقد تشربت الكذب فيصبح سجية تمارسه بعفوية ولعل هذا يفسر : لماذا نحن كذابون في بلادنا . حتى صار الفرد لا يثق بنفسه ، بدليل إنه يضطر لأن يقسم بأغلظ الأيمان كلما نطق بعبارة لعل وعسى يصدقه السامع لأنه يشك بأن السامع يعرف أنه كذاب . الكل يكذب على الكل ، و ليس الكذب بذاته مشكلة ، لأنه أُعطى للأفراد مع الحليب واعتادوا عليه ، لكن الأخطر والآفة الكبرى تتمثل بغياب الإحساس عند الناس بالخجل عندما يكذبون . فأنت ترى الرجل وقد خرج عليك يكاد أن يقسم بكل عزيز أن ما يفعله هو الصواب ، ثم يأتي بعده آخر أعلى منه ليلغي ما قام به ذاك الرجل ، لأنه خطأ ، ولو كان صحيحاً لما ألغاه . فكيف نصدق بعد ذلك أحداً ؟؟؟؟
الدول والمجتمعات لا تدار بالعواطف ، لذا ليس صحيحاً أن نقول أن الملك عندما صفع الحكومة وتصدى لقرارها برفع أسعار المحروقات وتجميده هل كان بذلك منحازاً للشعب ضد الحكومة ؟.
إن الملك أي ملك أو رئيس لا يتصرف بالفزعة يقف مع هذا ضد ذاك ، أو مع ذاك ضد هذا ... مثل هذا القول ... كلام عاطفي لا علاقة له بالسياسة ولا بتصرفات الحكم ولا بالادارة . والشعب لا يمكن أن يكون أقرب للملك من الحكومة ، لأنها حكومته في الأصل وتتصرف كما تقول دائماً وأبداً باسمه . وقد نجحت منذ 60 عاماً بإلقاء التبعية والمسؤولية عن أخطائها على عاتقه لأنها بريئة تؤمر فتطيع وعبد المأمور غير مسؤول ، حسب أعراف العرب أليس كذلك ؟؟ .
الذي حصل : أن الملك ربما مقتنع بأنه هو من تسبب في أن (ابتلى) الناس بهذه الحكومة وغيرها من الحكومات انفاذاً لصلاحياته الدستورية ، والحكومة تحكم ، والحكم يحتاج لكفاءة .. واختيار شخص لرئاسة الحكومة في الأردن كما جرت العادة ، لا يكون إلا على أساس المعرفة الشخصية أي من عائلات وتحديداً من أسر مجرّبة وثبت أنها مطيعة .. وكفى . وهذا غير كاف لضمان الكفاءة . فهذه الشخصية قد تكون كفؤة ومؤهلة وقد لا تكون ... وعندما لا تكون ... تخطئ في كثير من القرارات . وعندما تخطئ تلحق ضرراً بالملك ، فيخشى على مصالحه ومصالح الشعب ويضطر الى التدخل وتصويب الخطأ ، وربما يضطر الى جانب هذا التصرف الظاهري ، أن يحدّث نفسه متمتماً ويلعن اليوم الذي اضطر فيه لأن يكلّف هذا الفلان ، أو ذاك العلان بتشكيل حكومته ؛ إذا ما صار هذا الفلان فيلاً يتحرك في غرفة من زجاج ، كحركة رئيس حكومتنا الحالية حفظ الله له صحته .
وعلى خلفية ما حدث دعونا نتساءل : هل من قرر رفع الأسعار مرتين خلال مدة وجيزة قد عمل لمصلحة الملك والوطن ؟ .. لقد رفع الأسعار وهو يري مشاعر الناس ملتهبة ، والشارع بين الساكن بحذر والمائج ، ومدحلة الربيع العربي في طريقها الى العبور ، فقط تحتاج لمبرر أي كان شكله ... ومع ذلك يرفع الأسعار !!! ليس هكذا فحسب ، بل وبكشرة متعالية ، وهيئة تنم عن رغبة دفينة لدى صاحبها بأنه غير معني باحترام أحد أو احترام مشاعر أية جهة أو أي تنظيم.
ربما هذا متوقع : إذ ليس من عادة ابناء الذوات أن يحترموا عامة الناس بل تهميشهم . فكيف يمكن لمن وُلد في أسرة وزير أو رئيس ديوان ملكي مثلاً أو رئيس وزراء مثلاً كطفل مدلل ثم كبر على هذه الحال ، كيف يمكن له أن يشعر بأنه قريب نفسياً واجتماعياً من اولئك الذين ولدوا في أسر فقيرة وعاشوا في الشوارع ؟ أنها طينة مختلفة يا سادة ، واختلاف الطينة عامل فاصل نفسي واجتماعي دون شك بين الناس . هذا قانون اجتماعي ، لايستطيع أحد أن يكسر مصداقيته الا بعامل العبقرية . وهذه تظل بحدود الاستثناء ، وليس في بلادنا استثناءات ، إلا في المناسبات الفسادية وانتهاك القوانين.
نعم لم يشعر بأوجاع اولئك البعيدين عنه نفسياً ، ورفع الأسعار مرتين ...ولم يراعي مشاعر اولئك الذين يخرجون في الشوراع يعطلون أعمالهم ، ويهملون شؤون أسرهم من أجل مصلحة عامة هي اصلاح أحوال البلد المائلة الى حد السقوط . وفرض عليهم قوانين لا يريدونها ، وشكّل لهم مجالس وهيئات لا يريدونها بل لا يثقون بها اشخاصاً واهداف ، بل وتصرفات مقبلة ، وينوي اجراء انتخابات لم يحضّر لها جيداً الى درجة صار من الصعب تنفيذها الى حد الإستحالة . والسؤال ماذا كانت النتيجة ؟ لقد هاج الشارع وماج ، فهل هذا لمصلحة الملك وما يريده الملك ؟ الجواب قطعاً لا . وطالما أن الرجل يتصرف ضد إرادة الملك ومصلحته فما الذي يحمل جلالة الملك على أن يتقبل مثل هذه التصرفات ؟ إذن من المتوقع أن يتدخل للدفاع عن مصلحته أولاً ، وهكذا فعل . وكآثار جانبية لهذا التدخل ابتعد الضرر المباشر عن الناس أيضاً فكان ذلك لمصلحتهم ، وحمى الحكومة من هبّة الشعب ضدها ، فكان ذلك لمصلحتها ... وهذا ما حصل ... فقط ، أما إلى متى قد يطول تحمل الملك لمن يعمل ضد مصلحته ؟! فهذه قضية موضع شك لأن الحُكْم عقيم . حكمةً أكد التاريخ مصداقيتها .
ضمن هذه الأجواء يمكن التساؤل ؟ هل من حق دولة الرئيس أي دولة رئيس أن يعمل ضد مصلحة الملك ؟؟
الواضح أن دولة الرئيس يعتقد ضمن فهمه لحقوقه وواجباته وجبروته السلطوي وربما العائلي الوهمي ، أن من حقه أن يتصرف ضد أي كان طالما أنه صاحب الولاية الأولى ! لكن من يفترض ذلك عليه أن يدافع أو يثبت قليلاً في الدفاع عن وجهة نظره أو قراره ، إذا كان صائباً من وجهة نظره ، أما أن يسارع فيكون أول المهرولين للحس القرار فهذا يثير الشك عند الناس مستقبلاً بصحة قراراته بشؤون الدولة ناهيك عن كونه موقف مثير للشفقة.
والسؤال : لماذا استجاب بهرولة وبسهولة ؟ هل كان القرار خاطئاً من البداية ؟ والخطأ في مثل هذه الحالات منشأه قلة الدراسة ؛ فهل معنى ذلك إذن أن دولته لا يدرس قراراته بدقة وبشكل صحيح ؟؟ ! وإذا كان ذلك كذلك ؛ .. فمن لا يدرس قراراته بشكل دقيق وصحيح ويصدر قرارات تؤدي إلى نتائج لا تصب في مصلحة الملك والشعب ، فهل هكذا شخصية تكون مؤهلة للحكم من الأساس ؟؟ حتى بمعايير الملك كانسان له مصالحه ؟ إذا كانت مؤهلة ، فلماذا تخطئ ؟ وإذا لم تكن مؤهلة ؛ فلماذا تتقبل حمل الأمانة ؟؟ ولا نريد أن نزيد فنقول لماذا تكلّف ؟ لأن الجواب يقع ضمن صلاحيات الملك الدستورية . قد يقول : إرادة (سيّدنا) وهو لا يملك أن يخالف ، ونقول : أن المخالفة لا تغضب أحداً . حتى الله نفسه يقبل المخالفة ، ألم يناقش ابليس ويحاجج الخالق جلا وعلا وناقشه مساجله.. عندما أمره بالسجود لآدم ، ولولا أنه أمام خالق الكون الذي تصدّع لإرادته الأكوان كلها بمجراتها كلها وكل ما في الأرض والسماوات لما نفذ الأمر وخرج من الجنة.
بل أن الجبال وهي جمادات قد رفضت هي الأخرى ما عرضه الله عليها ، وهو حمل الأمانة "وعرضنا الأمانة على الجبال فأبين أن يحملنها واشفقن من حملها " إذن رفضت ولم يغضب الله .. إذن ادعاء الطاعة وعدم القدرة على الرفض ادعاء مردود ولا مجال له ... ولو كان الرفض مبرراً لتقبله الجميع . لكن السرعة والهرولة في التراجع عن القرار سلوك غامض وغير مفهوم ، ولا تفسير له ، إلا باحتمالين : الأول : وجود قناعة خفية لدى دولة الرئيس أن القرار غير مناسب ولا مدروس ولا أخلاقي ، لكنه قرر أن يأخذه وليكن ما يكون ، وعلى الملك أن يتحمل !! .
والاحتمال الثاني : أن دولة الرئيس يعرف أن القرار خطأ وخطر.. لكنه ربما يتفاعل بوجدانه ومشاعره مع الناس ، وشعر بأنه لا أقل له من أن يساهم بحركتهم الشعبية بدفعهم دفعاً إلى الحركة والهياج العام على أمل تنشيط عملية الإصلاح ، التي رآها تتراخى . فهناك رؤساء حكومات رجال مثله يتصدرون المشاهد الحراكية الشعبية والتاريخ يسجل . والرجال يغارون من بعضهم والأجيال ستقرأ مستقبلاً ، فلماذا لا يكون له زاوية ولو صغيرة مضيئة على صفحات ذلك التاريخ ؟؟!! لا سيما أن التغيير حاصل لا محالة ولو طال الزمن ؟؟ نقول ربما ... فإذا صح ذلك ، كان مبرراً ومفهوماً . وبذلك يكون دولته قد ساهم بالحراك فعلاً ، ولكن بسلبية يمكن أن نسميها السلبية الدافعة أو الفعالة ، ومثل هذا المنهج في التصرف لا يقل أثره في مجال تحقيق الهدف عن أثر التصرف الايجابي المباشر.
نخلص الى القول : بأنه سواء صح الاحتمال الأول أو الثاني أو الاحتمالين معاً ، فإن تدخل الملك وتجميد قرار دولة الرئيس ، هو صفعة ملكية لدولته وهذا من حق الملك لأنه بذلك دافع عن مصلحته بالدرجة الأولى بعد أن شعر بخطورة قرارات دولته على السلام الاجتماعي العام ، وعلى شرعية نظام الحكم .. ولا مصلحة للملك خارج هذا الاطار.
نقول هذا إذا كانت هناك في المشهد العام إرادة سياسة ورغبة حقيقية في انجاز الاصلاح السياسي والإداري العام في الأردن بطريقةٍ سلميةٍ ابداعيةٍ يقودها الملك ... فقط نحن نقرأ ما يدور في المشهد السياسي ... ونتساءل.