الصراع في المجتمع الأردني (1)
لا أميل حسب بنيتي الفكرية لأن استخدم مصطلح (الصراع) لحساسيته من جهة واحتراماً لوجهة نظر القائلين بأنه بقايا عصر (يقال) بأن صفحته قد طويت من جهة أخرى ، لكنني سوف أستخدمه لغايات التعبير عما يجري في بلدي لأنه مازال أدق المصطلحات وأصدقها للتعبير عن ذلك . ليس من الصعب أن يدرك الملاحظ لأوضاع المجتمع الأردني وما تجري به من تفاعلات، اجتماعية ذات طابع سياسي: أن هذا المجتمع يعيش في الواقع أزمة يبدو أنها تتجه لتكون مستعصية. فهناك صراع واضح يجري بين المكونات الاجتماعية على خلفية فروقات طبقية غير معترف بها رسميا....مع أنها واقع مــُعاش. فالمنهج الذي اتبعته ُ طبقة السلطة في إدارة الدولة منذ نشأتها الأولى وحتى اليوم، قد ( نجح) في خلق العديد من المفاصل التي جرت على أساسها عملية تصنيف الناس وتقسيمهم فئوياً، وكان ذلك كله على حساب وحدة النسيج الاجتماعي وتماسك هذا النسيج وكان المنظور السياسي هو الغلاب والموجه الرئيس في هذا المجال.
لقد انقسم الناس إلى فئات على أسس عديدة غير عقلانية، لكن أهم الأسس الموضوعية العقلانية المدروسة بدقة كانت الثروة والنفوذ السياسي ، وبتعبير لغوي جامع قد نقول على أساس (القوة) بمعنى "power"فبمقدار ما يتوفر لكل فئة من ثروة أو نفوذ سياسي فاعل ومؤثر بمقدار ما تكون قوية أو ضعيفة في مواجهة الفئات الأخرى . ولقد غابت عن المشهد السياسي أية سياسة تناقض هذا الواقع بحيث تنحاز مثلا ً إلى تدعيم ما يمكن أن نسميه " بالوحدة الوطنية" كواقع اجتماعي ، واعتزاز وطني كعقلية جماعية أو ذهنية عامة state of mind وإدامة التماسك الاجتماعي العام general social solidarity ؛ كهدف .
لقد خلا الجو تماماً لطبقة السلطة لتنفيذ برنامجها فدفعت بالمجتمع الأردني نحو هذا الواقع المختل طبقياً ورافقت جهودها بعملية واسعة " لتزييف الوعي " بهدف ترويض الناس على تقبّل هذا الواقع على اعتبار أنه الممكن الوحيد في ظل خصوصية اجتماعية مزعومة. لقد تجاوب مع هذا البرنامج وتلك العملية، الكثير من الفئات الاجتماعية الشعبية ليس بشكل اجتماعي منظم بالضرورة، بل على مستوى الأفراد في الغالب؛ إما بحكم المصلحة أو غياب الوعي، أو الذهول وغياب المقدرة على إدراك المرامي والأهداف . والملفت للانتباه ؛ أن يتساوى كثيرون من المتعلمين مع غير المتعلمين من حيث درجة التجاوب الايجابي مع كل ذلك فأصبحت الحال وكأن الغالبية من أفراد هذا المجتمع وفئاته ، تعيش حالة وعي زائف، صار يؤثر في سلوكها العام ويعكس بمجمله حالة تقبّل تبدو وكأنها عامة لذلك الواقع ، أو في أحسن الأحوال والظنون ، تعكس قدرة غير عادية لبعض الفئات على التعايش مع هذا الواقع الاجتماعي المؤلم دون شك؛ رغم أنه واقع ظالم يقوم في أصله على التمييز والاستبعادexclusion جوهره التمييز ، وغياب العدل والعدالة الاجتماعية . وإذا كان من المتوقع أن لا ينجو العامة وبسطاء الناس من الأثر التطبيعي لمثل هذه العملية أو البرنامج؛ فالمؤلم وغير المتوقع بل والمثير للدهشة إلى حد الغرابة، أن يقع الكثيرون من النخب العلمية والثقافية (المفترضة) في مثل هذا الفخ ، ليصيروا كعامة الناس من ضحاياه. !!!
لقد أدى المنهج المعتمد في ادارة الدولة الى تقسيم المجتمع الأردني الى طبقتين لا ثالث لهما على أساس " القوة " : طبقة السلطة الحاكمة والطبقة المحكومة .أما طبقة السلطة فقوامها فئتان: الفئة الأولى ، وتتمثل برأس الدولة والملكة وولي العهد والأسر المالكة ، والأمراء والأشراف وأقاربهم في النسب والمصاهرة وبعض المحسوبين عليهم بحكم الأصل . وهذه فئة تتمتع بقوة لا محدودة ، لكنها لاتمارس السلطة مباشرة (باستثناء رأس الدولة ) وإنما تنفذ ما تريد عبر من لهم الحق قانونياً لممارسة السلطة الفعلية في ادارة شؤون الدولة عامة ، ولهذه الفئة مصالحها الخاصة الى جانب ادوارها ومهامها ذات العلاقة بمسؤولياتها الوطنية .
الفئة الثانية من طبقة السلطة ، وتتمثل بقوى الحكم التنفيذية وتشمل رؤساء الوزارات والوزراء، ومجالس الاعيان والنواب والقائمين الدائمين على أجهزة الدولة السرية والعلنية، وأجهزتها الأمنية والعسكرية ، ومجالسها التي تُسمى مستقلة (أحيانا) وأصحاب المؤسسات الكبرى الاقتصادية وأرباب المال العظام 0(المتحالفين مع الساسة ) وأصحاب المشورة والقرار بالشأن السياسي الاقتصادي. وهذه الفئة تمارس بحكم دورها ومواقعها القانونية السلطة الفعلية في معظم شؤون الدولة التي تنفذها مباشرة أما بالمبادرة أو تنفيذاً والتزاماً بأموامر من جهات أعلى الممثلة بالفئة الأولى . وإذا كانت الفئة الأولى من هذه الطبقة هي سلطة (بالقوة) فإن سلطة الفئة الثانية هي سلطة (بالفعل ) بتعبير أهل الفلسفة .
لقد كان الدور الإجتماعي السياسي المناط بطبقة السلطة الحاكمة بفئتيها الاولى والثانية ، هو تحديد ملامح منهج الحكم أو منهج إدارة الدولة. حيث تتولى الفئة الثانية من هذه الطبقة مهمة إنفاذ مضامين هذا المنهج على كافة المستويات الشاملة لكافة نظم المجتمع الاقتصادية والمتالية والتربوية والقانونية والإدارية والسياسية .... الخ ، بحيث تنتج في نهاية المطاف واقعاً مجتمعياً يعكس بصدق التوجه المرغوب به سياسياً من الفئة الأولى، على اعتبار انه الأنسب في ضوء خصوصية افتراضية للمجتمع الأردني. لقد نتج عن ذلك كله ، واقعاً اجتماعياً مختلاً ومريضاً بأمراض منها ما هو "ساكن" ومنها ما صار علنياً ومكشوفاً لخاصة الناس وعامتهم. واهم الساكن منها ما يمكن أن نسميه "بالصراع"المحتدم على مستوى الشعور العام بين المكونات الطبقية لهذا المجتمع.سواء على المستوى الداخلي للطبقة ذاتها أو على مستوى علاقتها مع الطبقة الأخرى.
لقد أثارت الأسس التي اعتمدت للتصنيف الطبقي سالف الذكر الكثير من عوامل الاحباط لدى مكونات الطبقة الثانية (طبقة المحكومين) أو بتعبير أصدق وأدق طبقة (المُتَحكَّم بهم ) – بفتح الكاف وضم الميم – وأيقظت لديهم بعد صبر طويل ، حاجتهم إلى الصراع ، أو شعورهم بالحاجة اليه وزادت من قابليتهم للانقياد أو الالتحام مع الداعي إليه ذلك أن تلك الاسس لم يكن من بينها انجازات الأفراد أو قدراتهم الفعلية على الانجاز أو مهاراتهم الفردية وتميزهم المُكتسب وهي الأسس الموضوعية المعتمدة للتصنيف الطبقي عادة في أي مجتمع إذا كان ديمقراطياً أو شبه ديمقراطي على الأقل بل كان الأهم من ذلك كله في الحالة الأردنية خط النسب أو الوراثة ببعديها الطبيعي والاجتماعي فكان أن عصف هذا الاساس بقيمة العدل لدى طبقة السلطة ، فغابت العدالة عن حياة الناس ودب الصراع بين مكونات هذا المجتمع سواء على مستوى الطبقة الواحدة أو بينها وبين الطبقة الأخرى وهذا ما سنوضحه في المقالة التالية....