الخصوصية الأردنية واستبعاد "الدم"
لا يوجد كما نرى ، مبررات كافية لأن يتساءل البعض ، هل سيحدث في الأردن ، ما حدث في الدول العربية و بالأسلوب العنيف نفسه ؟؟ و كمحاولة للإجابة نقول : إنه لا مجال لأن يحدث في الأردن مثل ما حدث هناك لأسباب منها : (1) اختلاف ظروف الأردن عن ظروف تلك الدول تقريباً بكل ما له علاقة بأسباب الحراك ونتائجه.
هذا ليس كلاماً يقال : نعم سبق أن قال المصريون مثل ذلك عندما اندلعت في تونس ، وقاله الليبيون عندما اندلعت في مصر ، وقاله السوريون عندما اندلعت في ليبيا ، وبكل تلك الأقطار بما في ذلك اليمن ... ولقد كانوا جميعاً على خطأ صريح وواضح . ذلك أن واقع الأحوال هناك كان متشابهة عند الجميع إلى حد التطابق ... فالاستبداد السياسي ، والفساد الإداري والمالي والسياسي ، والإقصاء والتهميش وحكم الأسرة الواحدة والتفكير بالتوريث ، وإذلال الشعب كله لحساب غرور الرؤساء .. كله كان موجوداً عند الجميع .. وكانت الشعوب قد أجمعت هناك على إسقاط رؤوس الأنظمة أولاً ، ومن ثم تكنيس آثارهم بمكانس يدوية على مهل وليس كهربائية ، حتى يتغير كامل النظام ، مؤسسات ، وسياسات ، بل وأشخاص على المدى المتوسط و البعيد هذا ما سوف يحدث ، ولن تنحرف الشعوب العربية هناك عن هذا الهدف الرئيسى للثورات ، مهما ظن المتشائمون . فالشعوب إذا ثارت ، تكون قد أدخلت نفسها في النار ، وسوف تخرج منها وقد صُقلت من جديد ، كما تصقل النار الذهب . ما علينا.
أما في الواقع الأردني فمظاهر الإختلاف تبدو مما يلي :
1- في الأردن إجماع شعبي على بقاء النظام الملكي وإجماع شعبي على أنهم لا يريدون إسقاط رأس الدولة ، أو تنحيته ، أو قتله أو محاكمته .. وبالتالي لا خوف هناك يمكن أن يشعر به رأس الدولة ، ويدفعه الى التصرف بعنف كما هي عادة كل خائف إذا ما شعر بخطر يهدد حياته أو نظامه من الأساس .
2- إن كل أطياف المعارضة الممثلة للقوى الفاعلة سياسياً ، ناهيك حتى عن العشائر التي يظن خطأً أنها موالية ، متفقة على عدم التصعيد بالاتجاه نحو العنف والاكتفاء بالاساليب السلمية لتحقيق كل المطالب الإصلاحية لأنها ممكنة . كما أن القوى الشعبية المتحركة تفتقر إلى نواة قيادية صلبة مثّلها حتى اليوم الأخوان المسلمون في بلدان الربيع العربي الأخرى ، وقادتهم الى إنجاز التغيير ، بينما لا يعتبر الأخوان المسلمون بنسختهم الأردنية مؤهلون للقيام بهذا الدور لأسباب أبرزها ، إنقساماتهم الداخلية واختلافاتهم حول منهج العمل المناسب . فهم يجدون صعوبة في توحيد رأيهم حتى إزاء مسائل بسيطة مثل المشاركة في الانتخابات أو المقاطعة ؛ فكيف إذا ما تعلق الأمر بالعنف العام كوسيلة لتحقيق التغيير . ثم تلك الوصمة اللعينة التي ألصقت بهم ربما ظلماً بأنهم فصيل سياسي يعمل باسم الدين ليس لصالح الأردن كأولوية أولى ، مما يسهُل معها تأليب الناس عليهم . فالاخوان المسلمون في بلاد العرب الأخرى يوصمون بأنهم سوف يؤخرون المجتمع لأنهم مجرد مشايخ مشغولين بالأحوال الشخصية ولا يسايرون التقدم الحضاري العالمي . بينما أخوان الأردن يضاف لهم الى جانب هذه الوصمة وصمة أخرى بأنهم لا يعبرون عن ضمير الأردنيين من أصول شرق أردنية ، وهؤلاء نصف الشعب أو أكثر قليلاً وليس كل ما يشاع بالضرورة صحيح أو بالضرورة خطأ .الأخوان المسلمون على علم بذلك دون شك ، ويستحيل عقلاً أن لا يأخذون هذا باعتبارهم . وعليه تأتي حركتهم دائماً وكأنها خجولة ، وقد لا يرغبون بالاندفاع أكثر ، لخدمة أناس لا يطالبونهم بذلك ، بل وربما قد لا يشكرهم الكثيرون عليه ... فما الداعي إذن للتضحية ؟ ولماذا الاندفاع ؟؟ بل من أجل من ؟ ربما إذن يتراخون أو يتراجعون ، حيث يصبح الحراك الأردني في هذه الحالة دون قيادة فاعلة فغياب الأخوان عن قيادة الحراك يضعفه كثيراً ، والملاحظ أنهم حتى الآن يقدمون غيرهم ولو شكلياً لدور القيادة . أما باقي الأحزاب غير جبهة العمل الإسلامي المنضوية تحت لواء الجبهة الوطنية للإصلاح وغيرها من القوى والتجمعات الشعبية (باستثناء بعض النقابات) فهي أشكال بدون مضامين ، وسمعة دون فعل ، لأنها ليست عاجزة عن الفعل الإصلاحي المؤثر ، بل إنها لا ترغب فيه ربما ، علاوة على أنها غير مؤهلة تنظيمياً بسبب غياب الوحدة الحقيقية عن مكوناتها . إن تلك الأحزاب غير جبهة العمل الإسلامي إما أنها أحزاب مصنوعة على القالب الرسمي بايعاز منه وتمويل هدفها مواجهة حزب جبهة العمل الإسلامي إذا ما فكر ان يتجاوز حدود معينة سياسياً أو عملياً ؛ أو أنها أحزاب كرتونية لها وجود على الورق وليس لها وجود مؤثر على الأرض وثقلها الشعبي قد لا يتجاوز إلا بقليل أسماء المؤسسين الذين ربما زجت أسماء الكثيرين منهم بلائحة التأسيس ودفعت الرسوم عنهم من قبل البعض ... مجاملةً . فمثل هذه الأحزاب تُذكر ولا تُلمس وربما جُلّ ما يرجوه بعض مؤسسيها أن تعترف بوجودهم جبهة العمل الإسلامي وأن يذكرون عندما تذكر هذه الجبهة سيما أن وجودهم من أصله متوقف على أموال الدعم من الحكومة . ناهيك عن النجاحات التي حققتها طبقة السلطة في اختراق الجسم الهش للجبهة الوطنية للإصلاح وأبرزها استقطاب السلطة لبعض الشخصيات التي بدأت مع الجبهة كأقطاب معارضة وأسندت اليهم مناصب وزارية فتلقفوها بنهم ، مما سبب احراجاً كبيراً للجبهة ولرئيسها ومرارة تجرّعها ربما بصعوبة .. لكنها السياسة .. وهي كالبركة الآسنة تنبت من حولها عادةً الكثير من الطحالب الضارة.
3- عراقة الأسرة المالكة في الأردن : فهناك لدى دول الربيع العربي (كانوا رؤساء) كلهم من أصول شعبية متواضعة فصاروا من محدثي الحكم والسياسة ومثل هؤلاء تصبح الكراسي والسلطة هي كيانهم كله بل وحياتهم فتأهلوا نفسياً للقتال بالدفاع عنها حتى الموت . أما في الأردن فرأس الدولة ينحدر من عائلة ملكية عريقة في الحكم والسياسة ومثل هذه الخلفية الأسرية تزود ابناءها بدهاء سياسي عام مع أنها بحكم خصوصيتها الاجتماعية قد لا تزودهم بمعارف فنية وتفصيلية بشؤون الدولة ومجريات أعمالها اليومية . ومرونة الحاكم السياسية تساعد على أن لا يخطئ عندما يوازن بين الأولويات وربما يرى أن التشبث بالكرسي والتفرد بالسلطة لا ينبغي أن يكون الخيار الوحيد أو الأولوية اليتيمة كما جرت عليه موازنات محدثي الحكم في بلدان الربيع العربي . فمكانة الحاكم أو رأس الدولة في الحالة الأردنية موروثة وغير مستمدة من الكرسي . والصغار من يكبرون بالكراسي ، أما الكبار لا يكبرون بها بل تكبر بهم الكراسي ، بل والمجالس أينما جلسوا . وطالما أن الأردنيون مجمعون على أن يظل الملك جالساً على رأس الدولة ويميلون فقط الى تنزيهه عن أية شبهة قد تنتج عن ممارسة السلطة والأدوار التنفيذية .. وهم على ذلك متفقون .. إذن تظل المسألة الأردنية وما ستصل إليه ، مرهونة بنتيجة الموازنة التي سيجريها جلالة الملك بين الأولويات . فإما الى هدوء واستقرار أو الى فوضى تتصاعد لا أحد راغب فيها . والشعوب كالهواء في الكرة المضغوطة إذا ما وجدت ثقباً ولو صغيراً في جسم الكرة اندفعت لتتحرر من الضغط فتمزق الإطار الجامع لها المضغوطة داخله وباسلوب لا راد له.
4- اختلاف طبيعة ومنهج الحكم . ففي دول الربيع العربي وبخاصة في ليبيا ، وسوريا ، ومن قبل كان في العراق وتونس ، كانت وطأة الحكم قاسية على صدور الناس والخوف عام طام من السلطة وازلامها ومخبريها ، والتنكيل بالمعارضة منهج معتمد ودائم ، واعدام المخالفين متوقع في كل حين خاصة في ليبيا وسوريا والعراق وحدث منه الكثير ... يشذ عن ذلك مصر حيث مجال المعارضة أوسع وكذلك حرية الرأي ، لكن وطأة التحكم الأمني بالأفراد وباسلوب الفرعنة كان قاسياً . أما في الأردن فلا شيء من ذلك قد وجد ، ولا خوف من السلطة لدى الأفراد ، هناك ملامح قد يشترك بها نظام الحكم مع تلك الأنظمة مثل التفرد بالسلطة واقصاء الكثيرين عن المشاركة السياسية واقتصار ذلك على قلة خالدة مخلّدة .. لكن لم يكن هناك إرهاب وقمع مخيف ولا اعدامات ، إلا لعتاة المجرمين وهذا مبرر . إذن العلاقة بين السلطة والشعب ، ليست عدائية الى درجة الطالب والمطلوب ثأرياً ..كما كان في دول الربيع العربي . وهذا واقع يساعد على امكانية التفاهم مهما اشتدت المطالبات الشعبية وتباطأت الاستجابة الحكومية . لهذه الاسباب وغيرها ؛ نميل الى أن نستبعد أن يحدث في الأردن ما حدث في دول الربيع العربي وبالمستوى العنيف نفسه على الأقل ، بل ولا يوجد مبرر لحدوث ذلك . نقول بذلك شريطة أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء الدولة واصلاحها . يظل السؤال : إذن ما المخرج ، وما هي عناصر الخطة التي يمكن لأطراف المعادلة الصراعية في الأردن أن يلتفوا حولها ، وينتقلوا عبرها بالأردن الى مرحلة الأردن الجديد الخالي من قوى التخريب والفساد والفاسدين ؟؟؟.