تركيا وروسيا.. إلى حرب أم ليّ أذرعة؟
ما لم يقع حدث مفاجىء يجرّهما إلى اشتباك عسكري مباشر في سوريا، أو في أي من بؤر التوتر المشتركة الأخرى، فإن معطيات كثيرة تدلل على أن فرص التصادم العسكري بين روسيا وتركيا ضعيفة، فلا تعتقد أي منهما بأن لها مصلحة في الحرب.
وأنقرة خصوصا باتت مقتنعة أن الرهان على حلف الأطلسي "الناتو" ليس في محله، فالحلف لم ُيبدِ موقفا قويا مساندا لتركيا بعد إسقاطها الطائرة الروسية، فالحلف حرص على موازنة أمرين، تأكيد حق تركيا في الدفاع عن سيادتها، والتشديد على ضرورة التهدئة ونزع فتيل التوتر.
تدرك تركيا، التي بدا أنها أسقطت القاذفة الروسية في قلب مشروعها بسوريا، أن فارق القوة بينها وبين روسيا لا يميل لصالحها في أي تصادم عسكري مباشر، وتدرك أيضا، أن تمايز مقاربتها حيال الأزمة السورية عن مقاربة دول "الناتو" ستمنع تلك الدول من مجاراتها في أي تصعيد مع روسيا.
بل إذا كان إسقاط القاذفة "فخا" لكليهما، أي تركيا وروسيا، وهو الفرض الأضعف، فذلك يعني رغبة أميركية- أوروبية في إضعاف قوة الطرفين بإدخالهما حربا تفكيكية مدمرة.
ولا نستبعد أن تكون تركيا سعت بإسقاط القاذفة إلى عدة أمور:
أولا: اختبار طبيعة الردود الروسية حال فكّرت تركيا بخطوات أكبر في الملف السوري مثل الدخول لإقامة منطقة آمنة.
ثانيا: حفظ هيبة الدولة التركية بعد سلسلة خروقات لأجوائها من قبل الطيران الروسي.
ثالثا: كسر هيبة روسيا بوتين وكشف محدودية قوتها.
رابعا: رفض الوقائع الجديدة التي خلقها الروس بتدخلهم العسكري، والتعبير عن الاستياء من استهداف موسكو قوى محسوبة على أنقرة كتلك التي في جبل التركمان.
خامسا: وهو الأهم، ربما، محاولة تركيا توريط الناتو أكثر في الأزمة السورية.
ويلحظ أن ردود روسيا الجوابية على إسقاط قاذفتها بدت وكأنها استثمارية وأن لديها خطة جاهزة للتعامل مع الحادثة، لفرض المزيد من التغيير في المعادلات السياسية والعسكرية السورية، تحت غطاء الغضب الروسي الذي تريد كل الأطراف تجنبه.
وبعض ملامح الاستثمار الأساسية: الدفع بقدرات عسكرية إضافية إلى سوريا ما كانت أميركا وأطراف إقليمية ودولية ستقبل بإرسالها للمنطقة، كمنظومة الدفاع الصاروخي (اس-400) والطراد (موسكو) فائق القدرات، ومزيد من الغواصات، والقدرات القتالية الأخرى.
ذلك يظهر أن موسكو رأت في مأساة إسقاط طائرتها فرصة نادرة، بأكثر من زاوية:
أولا: تقوية وجودها في سوريا وتعميق التوازن العسكري بين النظام والمعارضة.
ثانيا: اختبار قدراتها العسكرية التي لم تختبرها منذ حرب افغانستان.
ثالثا: تثبيت وجود أوسع وطويل المدى في منطقة حوض المتوسط.
رابعا: تحجيم دور تركيا في سوريا لصالح دور روسي مؤثر في الحلول السياسية للأزمة.
أي أن المعنى الكامن في خطوات روسيا العقابية لتركيا وإدامة التوتر وشد الأعصاب، يحسّن من تموضعها في سوريا والمنطقة على حساب تركيا، كما ترى موسكو أن ضرب جوهر الوجود التركي في سوريا، وإضعاف تأثيرها، وخلق إشكاليات لها منها المباعدة بينها وحلفائها الغربيين، سيضعف، وبشكل آلي، الدور السعودي-القطري في سوريا، ما لم تنسق الدول الثلاث خطة تصد مشتركة للوجود الروسي، أولى خطواتها إقامة المنطقة الآمنة.
لكن تركيا تفهم أن الإجراءات العسكرية الروسية، والتذكير بقدراتها النووية على لسان (بوتين) لا تُجاوز إرباك تركيا وردعها، وأن العقاب سيتركز بصورة أساس في الجانب الاقتصادي، وتلك العقوبات ستنتقيها موسكو بعناية لهزّ الاقتصاد التركي وإيذائه، وبما لا يؤذي اقتصاد روسيا بصورة كبيرة.
والمأزق الحقيقي لتركيا أن تقدم روسيا على قطع إمدادات الغاز، فأنقرة تستورد من موسكو أكثر من 50% من حاجتها من الغاز، ونحو 20% من طهران، وهي كانت تأمل في التفاهم مع موسكو على مد أنبوب "السيل التركي" الذي كان سيحول تركيا إلى أهم ممر للغاز إلى أوروبا، بديلا لبلغاريا وأوكرانيا.
وتركيا التي تتحسب لمثل هذه الخطوة، فتحت خطوط اتصال لتأمين بدائل للغاز الروسي من أذربيجان وقطر، وربما "إسرائيل". وهذه المسألة بقدر ما ستؤثر على الاقتصاد التركي، فهي أيضا مؤذية للاقتصاد الروسي.
لذلك، فروسيا وهي تعاني وضعا اقتصاديا صعبا جراء انخفاض أسعار النفط، وخضوعها لعقوبات أميركية - أوروبية بسبب الأزمة الأوكرانية وضمها شبه جزيرة القرم، لم يظهر ما يشي بنيتها وقف بيع الغاز والنفط والمعادن والقمح لتركيا، وإنما تفكر بقصر العقوبات على قطاعات غير حيوية لروسيا بقدر حيويتها لتركيا كالعمالة والمقاولات والإنشاءات والزراعة والسياحة.
وإذا ما كنت فرص التصادم المباشر ضعيفة أو منعدمة بين البلدين، فإن حروب الوكالة بينهما لا تقتصر على بؤرة الصراع السوري، فروسيا وتركيا تتصادمان في غير بؤرة، وعلى نطاقين:
النطاق الأول، (داخل حدود الدولتين): دعم روسي أوسع لـ"أكراد تركيا"، وتصعيد المواجهة بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وتحريك الطائفة العلوية في لواء الاسكندرون..
وأنقرة، أيضا، بمقدورها توسيع دعم الانفصاليين الشيشان، وتأجيج المسلمين الروس، وكذلك تنشيط معارضة تتار القرم الرافضين ضم جزيرتهم لروسيا، فضلا عن استخدامها مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين ضد المصالح الروسية، وهذه الأخيرة قد تكون شرارة صراع لا يمكن التنبؤ بمآلاته، ولا يبدو أن أنقرة ستقدم عليها وإن جربت مماحكة موسكو هناك في ظلال الأزمة.
النطاق الثاني، (خارج حدود الدولتين): يمكن أن تؤجج روسيا وتركيا، أو أي منهما، التصادم بين أذربيجان (حليفة تركيا) وأرمينيا (حليفة روسيا) في إقليم ناغورنو كراباخ، وكذلك بين البوسنة وصربيا، وبين شطري قبرص، وزيادة دعم موسكو لـ"أكراد سوريا" لتأسيس كيانهم المرفوض تركياً، فيما يمكن لأنقرة زيادة دعم قوى المعارضة السورية المناوئة لموسكو، وكذلك استخدام القومية التركية في آسيا الوسطى، ودعم أوكرانيا.
إجمالا، أزمة روسيا- تركيا، من النوع الذي لا يمكنه أن يتطور إلى حرب بين البلدين، مالم يحدث تطور جذري خارج توقعات الطرفين، فتركيا- وفقا لمعطيات كثيرة- تسعى إلى تبريد الأزمة مع روسيا، بدليل انها لم ترد على العقوبات الروسية بخطوات مماثلة، وهي ترى، أيضا، انها لم تجن فوائد عظيمة من إسقاطها الطائرة الروسية.
وروسيا، أيضا، ليست بوارد الدخول في حرب مع تركيا، وهي كذلك ليست بوارد الاستجابة، الآن، لنداءات تسوية الأزمة مع أنقرة، فهي معنية بإطالة الخلاف وتصعيد أجواء التوتر، طالما أن في ذلك فائدة سياسية وعسكرية، ويتيح لها فرصة إحباط مخططات "أردوغان" في سوريا.