الكامن في ترتيب الجغرافيا والديموغرافيا السورية..!!
أدى الإنخراط العسكري الروسي في الصراع السوري، وتسارع إجراءات نقله من دائرة الفعل العسكري إلى دائرة الفعل السياسي، كما في فيينا ونيويورك، إلى تنشّيط السلطات السورية التفاوض، ومن ثم التوقيع، على مصالحات مع فصائل مقاتلة تأكدت ألا فرصة لها لإدامة سيطرتها على تلك المناطق، وباتت تتعرض لضغط الأهالي بفعل الحصارات الخانقة، فكان لايبد للطرفين من حلول مختلفة لحالات الاشتباك غير المجدي.
أكثر ما لفت في التسويات المتسارعة، وبمشاركة أطراف إقليمية ودولية، أن من بينها ما عقد مع تنظيمي الدولة الإسلامية "داعش" وجبهة النصرة في جنوب دمشق، والتنظيمان صُنفا سورياً وعالميا على أنهما إرهابيان، كما أن تسويات عديدة جرت مع فصائل معارضة أقل شأنا، ومع أحياء وقوى مجتمعية.
ذلك يعني وكأن النظام بنى استراتيجية التسويات على مستويين؛ جغرافي، وجغرافي- ديمغرافي؛ أي أن ما عناه جغرافيا هو تأمين مناطق، أغلبها في حزام دمشق لإخلاء ما يعتبرها "سوريا المفيدة" من المقاتلين. ومن التسويات الجغرافية- الديمغرافية، استهدف عمل إزاحات ديمغرافية عنت تأمين الكتلة الشيعية- العلوية، وحمايتهم من الاقتتال كقاعدة اجتماعية له، والأساس الجوهري لـ"سوريا المفيدة".
أي يمكن فهم التسويات والمصالحات "المجدية" التي ينفذها النظام، وبتسارع، كنتيجة للتدخل الروسي، وهو تدخل لعب دورا مركبا، انتهى ليكون مفيدا للنظام نسبيا، عندما غير قواعد اللعبتين العسكرية والسياسية معا.
ففي الوقت الذي عدل هذا التدخل موازين القوى العسكرية بين المعارضة والنظام لصالح الأخير، ساعد، أيضا، في تنشيط المسار السياسي، وتمكن من تطوير تفاهمات روسية- أميركية أسست لإمكانية التوصل إلى حل سياسي، وبصورة كانت مربكة للقوى الإقليمية المنخرطة في الأزمة.
وتظهر التسويات التي نُشّطت أخيرا، بفعل تدخل موسكو، وأحيانا بفعل حصارات خانقة فرضها النظام على مناطق عدة، أن (الأسد) يريد تحقيق أكثر من هدف:
أولا: يريد تأمين النطاق المحيط بالعاصمة دمشق، وكذلك المناطق التي لها تأثيرها القوي على منطقة الساحل، فإخلاء هذه المناطق من مقاتلي المعارضة يرفع من درجة الأمان فيها، ويوسع مساحة الجغرافيا التي يسيطر عليها النظام، فكلما زادت المساحة الخاضعة لسيطرته، كلما كانت قوته أكبر على طاولة التفاوض السياسي.
ثانيا: يستفيد النظام من المصالحات في إعادة نشر قوته في مناطق أخرى أكثر سخونة وأكثر حيوية، متوقعا أن رفع مستوى القوة العسكرية والكثافة النارية قد تمكنه من كسر التوازن في تلك المناطق لصالحه، وبالتالي حسم المواجهة فيها وإخضاعها لهيمنته بعد طرد المعارضة منها.
ثالثا: بالقدر الذي يستهدف النظام من المصالحات في البعد الجغرافي رفع مستوى أمان مناطق سيطرته وزيادتها، فهو أيضا معني بالبعد الديمغرافي السكاني، فهو معني بتأمين السكان الموالين له من الطائفة العلوية-الشيعية (تسوية الزبداني، الفوعة وكفريا، مثلا) بوصفهم الكتلة البشرية لدولة الخطة (ب)؛ أي "سوريا المفيدة" ثانيا.
وهي "سوريا المفيدة" التي برزت في أحد خطابات (الأسد)، وعكست في متنها قناعته بأن تحرير كامل سوريا من يد المعارضة صعب، ولا تدعمه حقائق الأرض، وهو ما يفسر انحيازه إلى استراتيجية تسويات ومصالحات تتيح المحافظة على نطاق جغرافي يمكنه إدامة حكمه، أو من يخلفه عليه، عندما تحين لحظة إنهاء الأزمة عبر تقسيمها إلى كيانات مستقلة أو في نطاق فدرالي.
لذا فأولوية (الأسد)، من الناحية الواقعية، تقوم على تأمين ذلك النطاق الجغرافي المفيد لكيانه المستقبلي المحتمل، وإن لا يزال يأمل في أن تبقى سوريا موحدة تحت حكمه، ويقاتل من أجل ذلك، لكنه ربما قتال العارف باستحالة الإبقاء على سوريا موحدة تحت حكمه، وكذلك باستبعاده قبول المكون العلوي البقاء في سوريا موحدة تحت أي حكم، غير حكم (الأسد)، لا يؤمن لهذا المكون مكاسبه ومصالحه.
وعلى ما يبدو فإن تقاطعا واضحا في التقييم والاستنتاج بين (الأسد) وحليفيه الروسي والإيراني، وبالتبعية "حزب الله"، أنّ لا فرصة إطلاقا للسيطرة العسكرية على كامل الجغرافيا السورية، وأن التدخل الروسي المباشر، ومن قبل التدخل الإيراني المتنوع، لم يحدث فرقا جوهريا حاسما في معادلة الصراع، وإن تمكن، فقط، من تثبيت نوع من توازن قوى يميل أحيانا لصالح النظام، لكنه ليس ميلا حاسما للصراع.
والدعم الروسي- الإيراني لـ(الأسد) لا يعكس بطبيعته أن موسكو وطهران تجمعان على تفاصيل الخطة، وأهدافها الدقيقة، فلكل منهما رؤيته المتمايزة عن الآخر، وبالتالي أهدافه التي تتقاطع في مساحة جغرافية وسياسية معينة وتتعارض في غيرها.
إيرانياً، فان الهدف المركزي، في القتال أو المصالحات، يقوم على أولوية تأمين مناطق النفوذ المهمة، كالمناطق القريبة من الحدود اللبنانية والعاصمة دمشق، وفي القلب من هذه الأولويات المناطق التي يهيمن عليها الشيعة.
وهذه الأولوية الإيرانية، ليست أكثر من خطة بديلة، تقوم على تأمين مناطق النفوذ تلك، وتحاول الدفع باتجاه أن تلقي كل الأطراف الداعمة للنظام ثقلها، إن عسكريا أو في سياق المصالحات، خلفها، كأولوية رئيسية في سياق الاستراتيجية الكلية لاستعادة كامل الأراضي السورية من أيدي المعارضة، أي أن إيران تريد أن تفرض تصورها حول أولويات تلك الأستراتيجية بما يخدم أجندتها وأهدافها.
روسياً، التصور مختلف، فموسكو بنت استراتيجيتها على أساس أن أي أرض يتم استعادتها من أيدي المعارضة وإخضاعها لـ(الأسد)، عسكريا أو بالمصالحات، مهما كانت طبيعة مكونها الديمغرافي، أولويتها الرئيسية.
وهذه الأولوية الروسية، تعني أن الجهد القتالي لا يجب أن ينصب على مناطق تنتقيها إيران، وإنما على أي أرض وفي أي جزء من سوريا يمكن استعادته، فروسيا تعتقد أن ذلك يفيدها، ويفيد حليفها (الأسد)، في مفاوضات الحل السياسي، إذ أنها ستكون، وهي تسيطر على أوسع مساحة سورية ممكنة، أقوى وأكثر قدرة على فرض شروط التسوية.
وروسيا، كما إيران، لديها الجغرافيا المفيدة لها، فهي -أي موسكو- إن تأمل بسوريا موحدة لها سلطة عليها، إلا ّ أن ما يعنيها بشكل أساسي، وكخيار أخير، تأمين الساحل السوري، حيث قاعدتها العسكرية البحرية، وهو الساحل الذي قد يكون في نهاية المطاف لحليفها (الأسد) حال تقسيم سوريا، وبالتالي روسيا تريد تركيز الجهد القتالي، وحتى المصالحات، في مناطق شمال وشمال شرق سوريا لتأمين النطاق المحيط بالساحل.
هذا ما يفسر سبب عدم توفير روسيا الدعم الجوي الحقيقي للعمليات القتالية في المناطق السورية المفيدة لإيران قرب الحدود اللبنانية، أو في الجنوب السوري، وفي مرحلة من المراحل اتهمت موسكو بالعمل على إفشال مصالحة الزبداني- الفوعة، كفريا، لضرب تكتيكات إيرانية تركز على تأمين جغرافيا بعينها، في حين ترى روسيا إمكانية استعادة مناطق أخرى تضاف إلى رصيد النظام بكلفة أقل، وأكثر فائدة في ترتيبات الحلول السياسية، وتقطع الطريق على مشروع تركي يهدف إلى إقامة منطقة آمنة في الشمال.
المعنى، أن التسويات والمصالحات تريد أن ترتب البعدين الجغرافي والديمغرافي، على الصورة المثلى التي يمكن أن تكون أساس التقسيم المحتمل، والذي ألمح إليه قبل أشهر اثنان من أبرز رجال الاستخبارات في العالم، رئيس المخابرات الفرنسية ونظيره الأميركي.