jo24_banner
jo24_banner

بنية الفساد في المجتمع العربي

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

تحليل سوسيولوجي من المنظور البنيوي الحلقة الأولى


يعدّ الفساد فعل فردي في الأساس قابل لأن يتحوّل إلى فساد مؤسسي أو فساد في نظام اجتماعي وبخاصة في الحالات التي تسند فيها أدوار ٌ قيادية لأفراد لديهم القابلية للفساد أو الاستعداد الشخصي والنفسي له. أما عن هذه القابلية وذلك الاستعداد، فتلك تنشأ عادة عن ظروف معينة لا يقوى بعض الأفراد تحت وطأتها على مقاومة الرغبة في الفساد، أو كبح جماح استعداداتهم النفسية له . ومهما يكن ، فإن الفساد وبأي شكل كان، ومهما كانت أسبابه ، لا يعد ّ فقط خروج على القانون ، بل هو أيضا ً اعتداء على قيم الجماعة ومعاييرها وتمرّد على المجتمع . وتنشأ مثل هذه الحالة، عندما يفشل الفرد في التوحّد مع القيم الأخلاقية أو منظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي تحظى باحترام المجتمع وتقديره ، أو عندما يعجز عن مسايرة التغيّر والتوافق معه بطريقة ايجابية .

ففي المجتمع الأردني على سبيل المثال كان انخراط المجتمع سريع فيما عُرف َ بالخصخصة كي يتجاوب كمجتمع، وإدارة دولة، مع استحقاقات العولمة التي يفرضها عادة ً قادة النظام العالمي الجديد، أو أصحاب الثقافات المسيطرة والغلاّبة في الساحة الدولية على باقي المجتمعات التابعة. إن مثل هذا الانخراط السريع يُعدّ مناخ يولّد الكثير من الفرص الاقتصادية والظروف التي صار بإمكان الكثيرين أن يستغلوها إلى أبعد مدى. إما بشكل ايجابي كما هو الحال في تحقيق النجاحات وفق معايير التقييم السائدة وبخاصة النموذجية منها ، أو بشكل سلبي كما هو الحال في تغليب المصالح الشخصية والانحياز إليها على حساب المصلحة العامة، وذلك عبر قيام البعض بالأدوار المناطة بهم داخل المجتمع واستغلالهم السلبي لتلك الأدوار .


إن الاستغلال السلبي للفرص المتاحة قد يحدث عبر آليات شخصية بحته مثل المهارة الفردية والشطارة ، أو الفهلوة كما هو حال النصابين والمحتالين الذين يمارسون هذا النمط من الفساد أثناء تفاعلهم مع الآخرين في الوسط الذي يعيشون فيه دون حيازتهم لسلطة ما، أو قيامهم بأدوار اجتماعية لها طابع رسمي وقانوني .


إن مثل هذا الفساد يُنظر إليه ضمن إطار الانحرافات السلوكية الفردية التي لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات البشرية نظرا ًلاختلاف طبائع الأفراد ومدى خضوعهم لسطوة الرغبة والغريزة لكن مثل هذا الفساد الفردي أو الانحرافات السلوكية الفردية .قد لا تشكل خطورة على المجتمع، مثل خطورة الفساد المدعّم بقوّة القانون، حيث يتاح لبعض الأفراد مجال لاستعمال سلطاتهم القانونية لتحقيق مكاسب شخصية مادية كانت أو غير مادية . على حساب المصلحة العامة للمجتمع، وبما يصطدم مع توقعات الآخرين منهم كأفراد فاعلين توجب عليهم طبيعة أدوارهم أن يخدموا الآخرين بنزاهة بعيدة عن الاستغلال أو الرغبة في الاستحواذ الشخصي والتكسب أو التربح .


إن الفساد المتمثل باستغلال قوة القانون وسلطة الدور يُعد ّ مشكلة اجتماعية بسبب اتّساع دائرة الضرر الناتجة عنه، وشمولها لعدد كبير من الأفراد والجماعات، كما هو الحال بفساد السياسيين وفساد الإداريين والماليين والمعلمين ، الذين تتأثر بقراراتهم الفاسدة أو إجراءاتهم الفاسدة ، دوائر اجتماعية كثيرة وأعداد كبيرة من الأفراد. وقد جرت العادة على تسمية ذلك الفساد بالفساد السياسي ، أو الإداري ، أو المالي ......الخ. وهو من أكثر أشكال الفساد انتشارا ً في العالم وأكثر أنماط الفساد إثارة للقلق العام في المجتمع .

إن هذه الأنماط الخطرة من الفساد لا تنشأ من فراغ ، وإلا كانت مشكلة معزولة عن بناء المجتمع يصعب فهمها ، مع أنها ليست كذلك في الواقع فلكي يُفهم الفساد الخطر ، لا بد من أن ينظر إليه على أنه انعكاس لبناء اجتماعي قد أصابه الخلل أو العطب في بعض نواحيه أو معظمها أو كلّها . ويختلف الحال باختلاف الزمان والمكان ، بمعنى أنه مشكلة تتولد من ظروف اجتماعية محددة لكنها في محصلتها النهائية ترمز إلى إخفاق الأفراد الفاسدين في تحقيق أهدافهم وإشباع حاجاتهم ضمن ذلك البناء المختل .


إن الأفراد في أي مجتمع متفاوتون من حيث قدرتهم على تجاوز الخلل البنائي والتصرف بايجابية وفقا ً للتوقعات المرتبطة بأدوارهم فمنهم من ينجح بذلك وهم الغالبية عادة ، ومنهم من يعجز عن ذلك فيقعون في الفساد إذا ما فشلوا في التوافق الايجابي مع التغيّرات الحاصلة في مجال البناء المجتمعي التي قد لا تكون دائما ً ايجابية .


إن من طبيعة المجتمعات البشرية مجابهة الخلل البنائي عن طريق إعادة ترتيب الأولويات، فإذا ما نجحت بذلك انحسرت حالات الانحرافات الفردية وإذا ما فشلت زادت هذه الحالات وضوحا ً وصارت مشكلة سائدة على سطح المجتمع مثيرة للقلق والخوف معا ً .

إن التحولات السياسية الاقتصادية التي سبقت وصاحبت انخراط المجتمع الأردني في العولمة ومقتضياتها ، وانتهاج مبدأ الخصخصة [على انه أو ضح المؤشرات الدالة على ذلك منذ الثمانينات]، قد خلق حالة جديدة ضغطت على البناء الاجتماعي كي يتكيف معها ، إلا أن السرعة التي تمت بها عملية التماهي مع الظروف الدولية [ التي شجّعت على ذلك بل ودفعت إليه ] . وبحكم أنها مستمدة من القرار الفردي ، قد شكلت تغيّرا ً بنيويا ً مفاجئا ً وجد معه أفراد الشعب أنفسهم في مواجهة استحقاقات كثيرة كانت في معظمها بغير صالحهم بحكم آثارها السلبية الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت بالظهور تدريجيا ً . وأبرزها تغير دور الدولة من الدور الرعوي الكلاسيكي إلى دور المراقب غير المتدخل ،واسناد هذا الدور الرعوي إلى القطاع الخاص الذي لم يكُن مؤهلا ً للقيام بهذا الدور وفق التوقعات المعتادة ودون أن تفطن طبقة السلطة صاحبة القرار إلى ضرورة التأكد من أهلية ذلك القطاع لدوره الجديد من النواحي الفنية والمعنوية المـتمثلة بدرجة الوعي باستحقاقات هذا الدور ومدى الالتزام الوطني بما يمكن أن يسمى بالمصلحة الوطنية العليا .


لقد حمل هذا التغيير المفاجئ معه بعض الملامح الجديدة التي بدأت بالظهور على مستوى البنى الاجتماعية فعلى سبيل المثال تراجعت العلاقات الأوّلية الحميمة أمام العلاقات الثانوية العقلية الصناعية ، وتعددت المصالح وتكاثرت وتضاربت ، بل إن الأخلاقيات الأردنية التقليدية وأساليب الحكم والتقييم الأخلاقية قد تغيّرت ولم تعد صالحة في المجتمع الأردني الجديد. فالقيم والمعايير الاجتماعية وكثير من المثل التي كانت تتحكم بالسلوك الفردي والجماعي وتضبط هذا السلوك ؛ قد تراجعت أمام عناصر القوة الجديدة، والعناصر الجديدة المحددة للمكانات والهيبة الاجتماعية . وتتمثل هذه بالمال والثروة بشكل رئيسي ، بصرف النظر عن المصدر لهذا المال أو تلك الثروة . فكان من الطبيعي أن يسعى بعض الأفراد والجماعات إلى انتهاز الفرصة المتاحة ، للاستفادة من هذا المناخ ،وقد تفاوتت النتائج بتفاوت القدرات المرتبطة بدورها بتفاوت السلطة التي يتمتع بها هذا الفرد أو تلك الجماعة. وبذلك وجدت النخبة السياسية والنخبة الاقتصادية فرصتها المناسبة . فهي الأكثر تأهيلا ً لاستغلال هذا المناخ الجديد، واستغلال حالة التقبّل النفسي التي صارت سائدة لدى الناس ؛لفكرة أن يكون الإنسان ثريا ً ، حتى يستطيع ان يتعايش أو يجاري المستوى غير المنطقي الذي بلغته تكاليف المعيشة عموما ً والأسعار وبخاصة أسعار الأراضي والعقارات التي تصاعدت تحت تأثير عوامل إقليمية كالأزمة العراقية وعوامل محلية تتمثل بالحاجات الطبقية الجديدة لطبقة السلطة لإيجاد مستويات معيشية واقتصادية عازلة لهم ومميّزة لهم عن باقي فئات المجتمع .


لقد بلغت الأسعار في بعض القطاعات أرقاما ً فلكية ، الأمر الذي صارت معه عملية الفرز الطبقي داخل المجتمع الأردني الجديد مسألة سهلة وممكنة . لقد وجدت طبقة السلطة نفسها أمام حقيقة مؤداها ،إن نجاحها في هذا الدور الاستغلالي للمناخ السائد الجديد ، يتوقف كثيرا ً على توفير استحقاقات أخرى كي لا تكون هناك عقبات قد تعيقها عن الاستمرار بهذا الدور . فكان إن دخل المجتمع الأردني مرحلة التصعيد السياسي للأفراد لإشغال المواقع المفصلية بحياة الدولة والمجتمع ، لا على أساس الكفاءة بل على أساس التوزيع الجغرافي والموالاة الافتراضية فكان إن انشغلت

مراكز القرار أو الكثير منها بشخصيات لم يكن عامل الكفاءة هو الأساس في اختيار هم وعلى افتراض (1) إن الكثير من هذه الشخصيات قد لا يشكلون عقبة أمام النخب السياسية والاقتصادية المنخرطة باهتمام شديد في استغلال المناخ الاقتصادي السياسي الجديد . لأن تلك الشخصيات سوف تظل تشعر بأنها مدينة لتلك النخب بما تحقق لها من امتيازات دون وجه حق . (2) إن إمكانية انخراط هؤلاء أنفسهم في عملية الاستغلال والفساد تظل أكبر من إمكانية المؤهلين الأكثر اعتدادا ً بالنفس عادة . وبالتالي يكون فساد غير المؤهلين غطاء على فساد غيرهم، وإلى جانب عملية التصعيد وإجراءاته غير الموضوعية امتدت يد طبقة السلطة إلى القضاء ، على اعتبار أن القضاء النزيه قد يشكّل تهديدا ً محتملا ً للفساد والفاسدين فيصبح من الضروري العمل على إحداث تغيير في بنية الأجهزة القضائية كأن يُفسح المجال للشباب أقل من 35 سنة لإشغال منصب القاضي دون أن يؤخذ بعين الاعتبار النسبية الثقافية والخصوصية الاجتماعية للمجتمعات العربية على العموم . فالشاب في هذا السن إنسان بمقتبل العمر له تطلعات وآمال كثيرة يهمه أن تتحقق في مشوار الحياة الذي مازال مديدا ً أمامه فإذا ما أضفنا إلى ذلك تكاليف المعيشة التي صارت مرتفعة جدا ً والقيود الاجتماعية والثقافية التي تحد أو تحول دون إشباع الشباب لكثير من حاجاتهم الأوليّة كما هو الحال في المجتمعات المتقدمة على سبيل المثال يصبح واضحا ً أن الأمر كان بحاجة إلى التريّث . فتلك الظروف وذلك الواقع الاقتصادي والاجتماعي قد تشكّل نقطة ضعف افتراضية لدى بعض القضاة الشباب فيصير من السهل احتوائهم والتأثير عليهم ، فتكون لذلك انعكاساته السلبية على حقوق الأفراد في المجتمع . فإذا ما أضفنا إلى ذلك قلة عدد القضاة بالمقارنة بحجم القضايا نخرج بنتيجة أن عملية التقاضي بذاتها تبدو وكأنها قد استهدفت كي تتحول إلى عملية مرهقة للقضاة والمتقاضين معا ً ، فيها احتمال كبير لضياع المتقاضين أكثر منها عملية لإنصافهم ، وقد يجد هذا التحليل دعما ً من خلال ما صار يُشاع في المجتمعات المختلفة التي تعاني من مشكلة الفساد نصائح شعبية عامة مؤداها أنه من الأفضل للفرد أن لا يذهب للمحاكم إلا مضطرا ً فضياع الحقوق وارد عبر ثلاث وسائل صارت مشهورة :


الأولى : آلية التأجيل المستمر إلى سنوات لكثرة القضايا عند القاضي الواحد وصعوبة أن يطلع عليها كلها بوقت قصير نسبيا ً .

الثانية : آلية الحكم بالهوى من قبل بعض القضاة الشباب ،إما لقلة الخبرة أحيانا ً أو الحكم بذلك تحت طائلة الترهيب أو الترغيب والوعود بالمكاسب والأعطيات والترقيات .

بالإضافة إلى ما سبق لجأت طبقة السلطة وهي بصدد توفير الأجواء المناسبة للفساد وتوفير إمكانية التخلص من المساءلة ؛ إلى ما يمكن أن نسميه [التشريع المغرض] الذي يعني إصدار تشريعات تشوبها عيوب كثيرة لجهة الانحياز لمصالح طبقة السلطة و تمرير تلك التشريعات عبر قنوات قد تم تأهيلها سلفاً لتمرير تلك التشريعات والمصادقة عليها وإصدارها كقوانين ، وأهمها المجالس النيابية التي تأتي كمخرجات مدروسة بعناية لتدخل طبقة السلطة .


وبذلك تكون هذه الطبقة قد هيأت السبل لتسهيل الفساد وتمريره وإنتاج الفاسدين ولم يعد من الممكن لأي سلطة قضائية أو تشريعية أن تحول دون ذلك حتى إذا ما ظهر من بعض العاملين فيها من ينادي بذلك فإن التداخل الذي صنعته طبقة السلطة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية الذي فرض التبعية على السلطة القضائية للسلطة التنفيذية ، يجعل من فرص ظهور مثل هؤلاء المعارضين حالات نادرة لا يقاس عليها .

وأخيرا نقول إذا كان إصلاح الخلل الحادث بأي شيء يبدأ بإزالة أسباب هذا الخلل فإنه وخلافا ً لما يتداول أحيانا ً أرى أن عملية الإصلاح في المجتمع الأردني من الأجدى أن تبدأ بتغيير طبقة السلطة بكل شخوصها ذلك أنه من العبث الافتراض بأن هذه الطبقة مؤهلة لإصلاح ذاتها فكيف إذا ما توقع البعض منها إصلاح المجتمع ؟؟؟ وهذا إجراء ربما كان يصعب على رأس الدولة القيام به في مراحل سابقة لأسباب يمكن تفهمها رغم امتلاكه لكل الصلاحيات اللازمة لذلك ، عندما كان الناس لا يفصلون بينه وبين طبقة السلطة التي نجحت في إقناع الناس بأن رأس الدولة هو المسؤول عن كل ما تقوم به هذه الطبقة من تصرفات . اليوم اختلف الأمر وهذه واحدة من ايجابيات الربيع العربي والحراك الشعبي على الصعيد الأردني بالنسبة لرأس الدولة - جلالة الملك- حين أدرك الناس ولأول مرّة أن الملك شيء وطبقة السلطة شيء آخر مختلف فهي التي تخطط بحكم التخصص والخبرة والاحتراف وهي التي تنفذ ولن يجد من قد يتذرع بمقولة (اللي فوق هيك بده )المقولة التي اتكأ عليها ناشرو الفساد في بلادنا .... من يسمع له ، بل سيجد آلافا ً من الأردنيين يقولون له : لكن دستورنا وكل قوانيننا تعطيك الحق في أن تُخالف (اللي فوق ) الذي وضعك في مكانك حتى تعمل كخبير ، لا لتـُطيع كعبد. فهل حاولت ؟ ولا نقول فعلت؟؟


أ.د. إدريس عزام

تابعو الأردن 24 على google news