حيتان البلد وهيئة التأمين
باختصار ... هيئة التأمين نموذج يكاد ان يكون (نادراً ) على أن الحكومة الأردنية قد تقرر أحياناً ما هو في مصلحة المواطن الضعيف، وليست دائماً نصيراً للحيتان وعمالقة المال . قرار الحكومة بإنشاء هيئة التأمين كان حكيماً وشعبياً مئة بالمئة ، ولصالح المواطنين في مواجهة شركات التأمين التي لم يهضم أصحابها وكبارها ، وجود هذه الهيئة من الأساس . فقد اعتادوا على ان الأمور في بلادنا ينبغي أن تظل (سداح مداح) ومن هو ذاك المواطن الذي أثار اهتمام الحكومة عندما رأته يقف عارياً ضعيفاً أمام شركات عملاقة وبالكاد أن يصل الى البعض من حقوقه منها، إذا احتاج الى ذلك ، ولا رادع لها أيضاً إذا رأت أن ترفع عليه أيضاً قسط التأمين الى عنان السماء مثلاً؟!! ألسنا نعيش في غابة والمواطن لا سند له فيها ؟؟!!!هذا هو منطق شركات التأمين، التي أزعجت الناس كما أزعجت الحكومة لكثرة ما تشكو من الفقر والخسارة المزعومة .... مع أنه لا فقر هناك ولا خسارة ، لكن من اعتاد أن يربح الملايين لا يرضى أن يربح مئات الآلاف فقط ولو أن أية شركة قد خسرت قرشاً واحداً فلن تتردد في الخروج من السوق بنفس اليوم الذي تخسر فيه لكنه الطمع بل الجشع قاتله الله.
أنظروا إلى أحوال أصحاب تلك الشركات او كبار المساهمين فيها ، فالعين لا تخطئ بحبوحة العيش وآثار الغنى الفاحش. بل ان منهم من صار يتطلع إلى أن يحكم البلد بماله. فشكل أحزاباً ، أو سيطر على أحزاب كوسيلة للوصول الى الحكم والسلطة هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإن شركات التأمين هذه مؤسسات وطنية تعمل بمال الأردنين المساهمين ؛ وهؤلاء من حقهم على الحكومة ان تحمي لهم أموالهم لدى تلك الشركات من سفه التصرفات والرواتب الخيالية للادارات على حساب صغار المساهمين بتلك الشركات سواء كانوا أردنيين أو غير أردنيين، هذه مقولة تتردد في الأردن من أقصاه إلى أقصاه . الجميع ينبغي ان يعمل خاضعاً للقانون في بلادنا فالقانون وجد لضبط التصرفات لكي لا يجور الأقوى على الأضعف.
إن الطبيعة الخاصة لمجال التأمينات ، بامتداداته الممكنة إلى ما وراء الحدود واحتمال تضارب قوانين البلاد المختلفة ذات العلاقة بالعقود التأمينية أحياناً وما قد ينتج عن ذلك من ضياع لحقوق الكثيرين من المواطنين (مساهمين صغار بتلك الشركات أو مؤمِّنين لديها (بتشديد الميم الثانية وكسرها))، اضف الى ذلك الطبيعة المستعجلة لقضايا التأمين المختلفة الناتجة عن وقوع الأضرار المؤمن ضدها من قبل مئات الآلاف من المواطنين وربما الملايين ؛كل ذلك قد اخذته الحكومة باعتبارها دون شك ، عندما ابدعت الفكرة وأنشأت هيئة التأمين لتكون بذلك فريدة ومتميزة في مجال عملها ووظيفتها خلافاً لكثير من الهيئات والمؤسسات والمجالس المستقلة الاخرى التي لا ضرر محتمل من دمجها او إعادة هيكلتها أو حتى الغاء الكثير منها . فهي إما أنها تخدم أهدافاً معنوية لا يكاد ان يلمس المواطن لها اثراً على الأرض . او انها تقوم بنشاطات تزدوج فيها مع ما تقوم به وزارة أو أكثر من وزارات الدولة.
أما هيئة التأمين، فإن التفكير بإلغائها أو دمجها من وجهة نظري لا يُفهم إلا أنه ضرب من ضروب التسرع الإداري السياسي غير الحصيف ، إن لم يكن آية جديدة من آيات التنكر الرسمي للمواطن الأردني الذي ربما نميل إلى ان ننزه الحكومة الأردنية الحالية عن الرغبة في إرتكاب هذا الاثم وتحمل عبء مثل هذه الخطيئة ضد الشعب.
لقد مل الانسان الأردني وغادرته أية ثقة بالحكومات التي اعتادت (كما يشيع بين الأردنين ) ان لا تنحاز إلا للأقوياء ، أما الفقراء من المواطنين العاديين فلا بأس من أن تدوسهم أقدام أولئك الأقوياء وجرت العادة ان تكون الحكومة أداتهم في ذلك ؛ إذا كان في ذلك ما يرضي صاحب المعالي صاحب شركة التأمين (الفلانية) أو صاحب السعادة أو الدولة كبير المساهمين بشركة التأمين (العلانية)، ولتذهب الرقابة الحكومية الضابطة ممثلة بهيئة التأمين إلى الجحيم ، ومعها كل المواطنين المؤمِّنين أو المساهمين الصغار .
إن إلغاء هذه الهيئة أو دمجها أو إلحاقها بوزارة ما، سيكون عيداً لذوي الكروش المنتفخة، فهم الذين طالما انزعجوا من حرص الحكومة وتدخلها لصالح الحق وانصاف أطراف عقود التأمين. إن ذلك عدل فرضته الحكومة مشكورة شعبياً ، لكنه قيّد حركة الحيتان من أصحاب الشركات للفتك بالمواطنين واستغلال ضعفهم أمام الصيغ القانونية المعقدة لوثائق عقودهم ، المطولة وغير المفهومة الا لمتخصص مدقق ، وذات الخط الصغير جداً جداً (الفسفوس) غير القابل للقراءة دون عدسة مكبرة ، وذلك لدفع المواطن إلى التوقيع والإذعان لا عن قناعة بل عن ملل ، وتقاعس عن قراءة صفحات لا شك انها وصفة مثالية لوجع الراس . وبصراحة أكثر نقول : إن الكثيرين من الأردنيين يعتقدون أن المقصود من كل (هُلّيلة) المؤسسات والهيئات المستقلة هي :هيئة التأمين فقط . لماذا؟لأنها أداة رقابة فعالة على نشاط شركات التأمين والتي لها (بكايات حيتان) فهم لا يريدون أي قيد حكومي على نشاطهم في مجال امتصاص الدماء وان لهؤلاء نفوذهم الشديد في بلدنا ومنهم من وصل الى كرسي الوزارة ذات العلاقة بهيئة التأمين عبر مجلس إدارتها رغم استقلالها وكانوا يتعرضون لضغوط من زملائهم حيتان الشركات وبعبارات من مثل (( يا عمّي الغولنا هالهيئة حتى ناخذ راحتنا )) و (( يا عمّي متى ستريحونا من هالهيئة؟؟!!)) ، إن صح ذلك والأرجح انه صحيح ، فالواضح أنهم لا يطيقون رقابة الحكومة ويريدونها (برطعة) ولا يهمهم ان ذلك الالغاء قد يسيء الى الحكومة إذا ما تراجعت عمّا يعدّ من أحسن القرارات التي أنتجتها الحكومات الاردنية طيلة تاريخها عندما قررت إنشاء هذه الهيئة الوطنية لضبط العمل في هذا المجال الحسّاس جداً وكان فيه مصلحة للغالبية الساحقة من مواطني هذا البلد .
إن المناوئين لوجود هذه الهيئة من أساطين المال مالكي أو كبار مساهمي شركات التأمين لا يهمهم أن تلغى كل وزارات الاردن شريطة أن يكون من ضمنها الغاء هيئة التأمين ، نُهيب بالحكومة الموقرة أن تتريث كثيراً قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة غير الشعبية ، وان تستمر في برنامجها الخاص بإعادة هيكلة الهيئات المستقلة على أن تستثني من ذلك هيئة التأمين إذ لا بديل حكومي متوفر ومناسب يمكن أن يؤدي مهامها بنفس الفعالية. فوزارة التجارة والصناعة على سبيل المثال : غارقة حتى آذانها بمشاكلها الخاصة وضخامة العمل الذي تتصدى له الى درجة صارت معها تُعدّ وصفة مثالية لإضاعة وقت المراجع ليوم او عدة ايام ولو لمهمة تافهة .
ولنذكر جيداً أن في بلادنا كثيرون لا عمل لهم إلا إتلاف الورود والزهور في بلادنا ، و(الدوس) على كل دحنونة متفتحة في جبالنا و(تفعيسها) لكي لا تبدو متوردة جميلة .
ونذكّر الجميع بأن تجربتنا الاردنية في مجال تنظيم قطاع التأمين بصورتها الحديثة عبر هذه الهيئة، صار نموذجاً يُحتذى به من قبل دول كثيرة عربية وغير عربية ومنها من صار يستعين بالخبرة الأردنية في هذا المجال . فهل يوافق العقل أو المنطق إذن أنه في الوقت الذي يعترف الكثيرون بنجاحنا في هذا المجال، أن نخرج بتصرف نعلن من خلاله على الملأ بأننا فاشلون؟؟!!! (وسيبونا من حكاية التوفير هيئة وطنية وضرورية لكل الناس لا تكسر بلد).
إن إلغاء هيئة التأمين أو دمجها هو فعل لصالح رأس المال والرأسماليين وما يشبه الجريمة بحق المواطنين (مومِّنين ومساهمين صغار) وقد لا نجدما يمكن أن نصف فيه هذا الفعل إن حدث لا قدّر الله، سوى ذلك البيت من الشعر النبطي الذي يقول فيه الشاعر البدوي الأردني :
يا قاعــْدٍ بالظلْ حكومـــتــك زادت ظــِـلَّــكْ
ويــا قــاعدْ بالشمسْ زادت علـــيـــك إســخــــــامْ